بركة ترامب.. أم لعنته؟

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 22 يناير 2021 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

بعد أن هدأ الغبار وتوقف صليل السيوف، ومضى كُلٌ إلى غايته، بايدن يحقق حُلمَه بدخول البيت الأبيض، ويعود ترامب إلى منتجعه فى فلوريدا مُحملًا بشعبية لم يكن يَحُلم بها: حوالى ٧٥ مليون أمريكى يؤيدونه، وهذا الرقم يُعطيه دافعًا قويًا ليعمل فى الأربع سنوات القادمة حتى يُرشح نفسَه للرئاسة بعد نهايتها. إذن بهذه المعادلة الكل كسبان win win كما يقول الأمريكان وكل شيء له حساباته.

والسؤال الآن عن الدروس المستفادة مما حدث فى تاريخ الرئاسة الأمريكية.

الدرس الأول: العودة للأصول، الحاجة إلى فهم كيف يفكر الأمريكان

ولكى نفعل ذلك علينا أن ندرس التاريخ
بدراسة التاريخ (الزمان) مع هندسة المكان أو ما يسمى المكان والزمان أو الزمكان، وهو ما حاول أن يفعله جمال حمدان فى موسوعته «عبقرية الزمان والمكان» لفهم تاريخ وهندسة المصريين، وبتطبيق هذه النظرية على هندسة مبانى البيت الأبيض والكابيتول نجد أن هناك مبنيين، البيت الأبيض (بيت الرئيس ومكان عمله)، أما بيت الشعب (مبنى الكابيتول الذى يحتوى على مجلس الشيوخ والنواب «الكونجرس»)، والشارع الذى يفصل بين المبنيين هو شارع بنسلفانيا، وهنا علينا أن نفهم معنى ورمز الكابيتول فى وعى الشعب الأمريكى، فمبنى الكابيتول الذى قرر بناءه چورچ واشنطن عام ١٧٩١م وكلف مهندسا أمريكيا من أصل فرنسى يدعى لافان ليصمم ويخطط مدينة واشنطن، وجاء تصميمه على أساس فلسفة الحكم والتى تُقر أن مركز الحكم هو (الكابيتول) وليس الرئيس، وهكذا وضع الكابيتول فى المركز، وقد كان لافان متأثرًا بقوة بالمعمار الفرعونى المصرى، فصمم المبنى طبق الأصل المرتبط بغرفة نوم الملك إخناتون، والتى كانت مصممة على شكل قرص الشمس، وتشع من هذا القرص شوارع المدينة بشكل مائل كأنها أشعة الشمس وهى تشرق على المدينة، وهو نفس تصميم باريس عاصمة فرنسا وقرص الشمس فيها قصر فرساى، وهو نفس التصميم للمهندس الفرنسى الذى صمم القاهرة ووضع ميدان التحرير كقرص الشمس وتتفرع منه الشوارع بميل بسيط، وهكذا كان قرص الشمس هو مبنى الكونجرس الذى تنبثق منه الشوارع وتعود إليه، وكان ذلك كما أفهم جورج واشنطن المصمم وحىّ وفلسفة النظام الفيدرالى الأمريكى، وتوازن السلطات، وكذلك فكرة المساواة بين المواطنين التى تُمثل أعلى قيَم الجمهورية الأمريكية، والفلسفة هنا أن عيون المواطنين الأمريكان ترى مركز الحكم من أى مكان فى المدينة، وفى ذات الوقت ترى عيون الدولة المواطنين من ذات المركز، لعلك ــ عزيزى القارئ ــ تذكر مشكلة السائق الأسود الذى قتلته الشرطة مما أدى إلى زحف المواطنين السود نحو الكابيتول، تحت شعار «حياة السود مهمة»، من هنا نرى الفلسفة التى وضعها چورچ واشنطن لتخطيط المدينة لتعبر عن المساواة الكاملة بين المواطنين وحريتهم فى الاحتجاج والذى أريد أن تلاحظه هنا ــ عزيزى القارئ ــ أن تصميم البيت الأبيض أو قصر الرئاسة صُممت مساحته أقل بكثير من مساحة الكونجرس، عكس رؤساء العالم الثالث وأوروبا، والفلسفة هنا أيضًا أن سلطة الرئيس التنفيذية ليست هى الإلهام، فلا يوجد لديهم «الرئيس الملهم»، لكن الإلهام يأتى من الكونجرس الذى يُمثل الشعب بحكم القانون، ولذلك هو الذى يحاكم الرئيس ويملك عزله، وهذه الفلسفة تحتوى على الطريق العكسى وهو احتجاج الرئيس ومؤيديه، وقد حدث مثل ذلك تاريخيًا أيام إبراهام لينكولن الذى حرر العبيد، وكانت النتيجة انفصال سبع ولايات (الجنوب الأمريكى) وعَينت لنفسها رئيسا غير إبراهام لينكولن، وعند تنصيب لينكولن ألقى إبراهام لينكولن خطابًا متسامحًا مع الولايات التى انفصلت.
الدرس الثانى: لماذا وكيف ضاعت الرئاسة الأمريكية فى دورتها الثانية من بين يَدى ترامب؟

عندما نشاهد فى التلفزيون عبر الأقمار الصناعية ــ رغم طول المسافات ــ مثل هذه الأحداث، والتى تشبه أحيانًا أحداثا تقع لدينا كمصريين وعرب، علينا ألا نفسرها كما نفسر أحداثنا هنا بخلفياتنا نحن، لأن التاريخ والتمدين والدساتير والديمقراطية وغير ذلك لا تنطبق علينا، فما نمارسه نحن ورغم استخدامنا نفس المصطلحات إلا أن الفرق شاسع جدًا.
فمن الغريب أن البعض أطلق على هجوم ترامب على الكونجرس «غزوة الكابيتول أو الكونجرس» وبالطبع مصطلح غزوة تأتى من قلب ثقافتنا، أما فى الدول الديمقراطية فلا يوجد هذا المصطلح وإذا ذكرته أمام شخص أمريكى لن يفهمه أو يدركه وعليك أن تشرحه له، لأن غزوة تعنى فتح وتعنى سلاح وتعنى قبلية... إلخ، وكل هذه ليس من الديمقراطية بمكان ولا توجد فى التاريخ الأمريكى. فالغزوة تعنى امتلاك الأرض وذبح أصحابها إن لم يخضعوا للغازى، لكن ما حدث هو أن السياسيين التابعين لترامب وجدوا أنفسهم بين خيارين إما خسارة الحاكم أو خسارة الحكم، وهكذا مال الاختيار إلى سلامة الدولة، فالمؤسسة أهم من الفرد وهنا كانت صدمة ترامب، إن الخطأ الفادح الذى وقع فيه ترامب أنه كشخص عند مؤيديه أفضل من الدولة، ولذلك لم يُصدق إطلاقًا هزيمته، فصمم على إعادة الفرز، لقد كان ترامب فى موقف لا يُحسد عليه فهو متأكد من شعبيته لكن ما حدث من مؤيدى ترامب أن الكثير منهم اختار المؤسسة على حساب رئيسهم المفضل، وهذا قمة نضج المواطن، فالمؤسسة هى الباقية، ففى الدول العريقة لا يوجد هتاف «بالروح بالدم نفديك يا رئيس» لكن بالروح والدم نفديك يا وطن، ويا مؤسسة رئاسة، وهذا التحول لم يستوعبه ترامب وظل مُصممًا على أن إعادة الفرز سوف تأتى لصالحه.
إن ما نريد أن نتعلمه هنا من الدول الديمقراطية الحقيقية، أن هناك فارقًا بين التنافس على الحكومة والصراع مع النظام السياسى، فالدولة ــ فى ذهن المواطن الناضج ليست فردًا حاكمًا، الدولة هى المؤسسات المختلفة الرئاسية والتشريعية والقضائية والحكومة البيروقراطية والحكومات الفيدرالية ونشاطاتها ومنشآتها المدنية والعسكرية والمؤسسة العميقة، ومن الطبيعى وبغض النظر عن هُراء نظريات المؤامرة التى نطق بها ترامب وكانت سببًا فى سقوطه هى ذاتها التى يصدرونها لنا، ونحن شعب ساذج لأننا لم نمارس الديمقراطية على طول الزمن، فهذه المؤسسات كُلها بلا استثناء تحمى الدولة، ولن تحمى حكومة أو رئيسا ولن تسمح لرئيس مهما كان بتدمير الهيكل سواء كان ترامب أو غيره، ولو فكر ترامب لحظة واحدة سوف يكتشف أن مؤيديه لم يخونوه، ولا توجد مؤامرة، لأن هذا النظام هو الذى أعانه فى الانتخابات السابقة وفضلوه على هيلارى السياسية المخضرمة والتى كانت بحكم خبرتها وتاريخها أفضل منه كثيرًا، لكنهم اختاروا المؤسسة ورفضوا الفرد مهما كانت مواهبه وصلاحيته، وهو ما كرروه هذه المرة، لقد ظن ترامب أنهم اختاروه لشخصه ولو فكر قليلًا كان سيكتشف أنهم اختاروا الدولة ومؤسساتها التى كانت سوف تدمرها هيلارى، وهذا بالطبع كان لابد من شرحه لترامب لو طلب ذلك من كيسنجر مثلًا، وكان كيسنجر أو غيره من الخبراء سيقولون له ــ على بلاطة ــ إننا اخترناك ترامب مع عدم خبرتك بالسياسة، لإنقاذ أمريكا من هيلارى، لقد اخترنا المؤسسة فالدولة أكبر من أى رئيس.
هذه الأدبيات لم نتربَ نحن عليها ولم نحاولها على مدى عشرات السنين.

ثالثا: دور وسائل التواصل الاجتماعى

لقد تأكد للأمريكيين والمتابعين للحالة الأمريكية أنهم كانوا على حافة حريق كبير، فقد دخل الكونجرس من يحمل علم الحرب الأهلية، جاء المئات محمولين فى شاحنات من مزارعهم تلبية لنداء ترامب، كونوا هناك فى ٦ يناير وكونوا أقوياء فى الحرب، هنا كان على الولايات المتحدة أن تدرس وبعناية فى السنوات القادمة وسائل التواصل الاجتماعى فى العصيان المدنى، أتذكر الدور الذى قامت به هذه الوسائل فى الثورة الشعبية المصرية فى ٢٠١١م والتى من خلالها تم شل ذراع الداخلية والرئاسة والوزارات.. إلخ؛ لأن شباب التحرير كانوا أكثر فهمًا واستخدامًا لهذه الوسائل، بينما كبار الدولة ليس لديهم فكرة عن أثر هذه الوسائل فسقطوا، المشكلة هنا أن الذى استخدم هذه الوسائل هو الرئيس ذاته للتحريض والدعوة لاقتحام الكابيتول وكان إغلاق التويتر عليه كارثة، لأنها أبعد ما تكون عن الديمقراطية، وسوف تقف أمريكا كثيرًا لتحلل هل كان إغلاق التويتر لصالح ترامب أم العكس؟! بلا شك هناك جانب من الشعب الأمريكى أعجب بهذه الطريقة، هذه الفوضى التى خلقها ترامب والشعبوية التى استخدمها فى إثارة البعض للتظاهر والاعتداء على الكونجرس، لقد كان ترامب مشروع ديكتاتور لكنه جاء فى المكان الخطأ، فهو يصطف بجوار بوتين وأردوغان وزعماء معظم بلدان العالم الثالث والشرق الأوسط.
إن ما أدى إلى فشل وسائل التواصل الاجتماعى هو حكمة الشرطة وطريقة تعاملها مع المتظاهرين، ثم تصويت أعضاء الحزب الجمهورى المؤثرين ضد ترامب، أيضا تغطية الإعلام للأحداث بدقة شديدة دون تهويل أو تهوين. وهكذا انتصرت الديمقراطية الحقيقية وليست تمثيلية الديمقراطية التى تُمارس فى العالم الثالث بمنتهى الدقة والحرفية والقدرة على التمثيل المسرحى والسينمائى.
فى النهاية يبقى سؤال: ماذا عن المستقبل؟ وهو ما سنتابعه معك عزيزى القارئ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved