السياسة الدولية منذ القرن العشرين.. الثورة المجرية!

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 22 يناير 2022 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

 

كانت الثورة المجرية (أكتوبرــ نوفمبر) ١٩٥٦ هى رابع حلقات المواجهات غير المباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى منذ خطبة ترومان فى ١٩٤٧، بعد أزمة حصار برلين الغربية، ونجاح الثورة الشيوعية فى الصين وأزمة مقعد مجلس الأمن، والحرب الكورية (١٩٥٠ــ١٩٥٣). المواجهة هذه المرة كانت فى إحدى الدول التابعة مباشرة للاتحاد السوفيتى وكانت أكبر الأزمات المهددة للكيان الشيوعى. فالمجر والتى تم احتلالها بواسطة الجيش الأحمر السوفيتى بعد أن كانت إحدى أهم الدول المساندة لألمانيا وإيطاليا بالإضافة إلى رومانيا وبلغاريا فى الحرب العالمية الثانية، والتى عانت كثيرا من سياسة جوزيف ستالين القمعية التأديبية لها على هذا الموقف، ولعل أبرز هذه السياسات العقابية كانت مئات الملايين من الدولارات التى أجبر ستالين الحكومة المجرية على دفعها كتعويضات عن الحرب، كانت على موعد مع ثورة ضد الاتحاد السوفيتى كادت أن تعصف مبكرا بوحدة الكتلة الشرقية فى مواجهة نظيرتها الغربية.

كان رئيس الحكومة المجرية ماتياس راكوشى التابع للاتحاد السوفيتى ورجل ستالين الأول فى المجر يتبع المنهج القمعى فى مواجهة ليس فقط خصومه، ولكن من يشك هو أو أحد مساعديه أنه لا يدين بالولاء الكامل للسياسات الستالينية! فى سبيل ذلك قام راكوشى بما أسماه تطهير الحزب الحاكم من عشرات الآلاف من الأعضاء ممن اعتبرهم عملاء للغرب فى أواخر الأربعينيات، ثم أعقب ذلك هجمة أخرى على الناشطين من الشعب فى المجال السياسى ممن يشك فى ولائهم وتعرض معظمهم لمحاكمات سورية انتهت بهم فى السجن، بل وبتهجير أهاليهم ومصادرة منازلهم لصالح أعضاء الحزب المخلصين وهى كلها أمور ساهمت فى تأجيج الشعب المجرى ضد حاكمه!
سبق الثورة المجرية حدثان مهمان، الأول هو وفاة ستالين فى ١٩٥٣ مما خفف من حدة سيطرة الاتحاد السوفيتى على المجر والسماح للتيارات الشيوعية الإصلاحية لاعتلاء السلطة وعلى رأسهم رئيس الوزراء إيمرى ناجى والذى ترأس الحكومة فى ١٩٥٣ متبعا حزمة من السياسات الإصلاحية الاقتصادية والأمنية التى ساهمت فى السماح للكثير من الكتاب والمحللين والنشطاء بالتعبير عن قدر من غضبهم المكتوب بقدر من الأمان لم يكن متوفرا سابقا فى عصر راكوشى، وكذلك ساهم ذلك فى التخفيف التدريجى من القبضة الأمنية للبوليس السرى الذى كان يستخدمه راكوشى فى قمع كل خصومه. على الرغم من خروج راكوشى من رئاسة الوزراء، فإنه احتفظ بموقعه كسكرتير عام للحزب فأخذ فى تشكيل مراكز قوى ضد إيمرى ناجى حتى تم إقالة الأخير من الحزب ثم من رئاسة الوزراء فى ١٩٥٥.
أما الحدث الثانى فكان فى الجارة القريبة بولندا، والتى شهدت عاصمتها توقيع الحلف الأمنى للكتلة الشرقية لمواجهة الناتو والمعروف باسم «حلف وارسو» والذى نص على احترام الأعضاء لسيادة كلٍ منهما وعدم التدخل فى الشأن الداخلى للدول الأعضاء والتى كان من ضمنها المجر، وهو ما شجع الأخيرة تحت حكم إيمرى ناجى للسعى لتقليد النمسا وإعلان سياسة الحياد فى الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة! ومما شجع الثورة المجرية بشكل أكبر كان نجاح حكومة بولندا بعد ضغوط شعبية نتجت عن مظاهرات مدينة بوزنان فى إقناع الاتحاد السوفيتى بالتخفيف من تواجد جنود الجيش الأحمر المتمركزين فى بولندا!
• • •
بدأ الطلاب المجريون الثورة أولا فى جامعة بودابست للتكنولوجيا والاقتصاد وشاركهم بعض الأساتذة مطالبين بحل اتحاد الطلاب الذى يمثل الحزب الشيوعى وإطلاق الحريات العامة فى البلاد، وسرعان ما لاقت المطالب استحسان الطلاب فى جامعات مختلفة فى أنحاء البلاد وتم تشكيل وفد يمثل الطلاب وتمكنوا من دخول مبنى الراديو من أجل إذاعة بيان يمثل مطالبهم فى الحريات وإنهاء الوجود السوفيتى فى البلاد، إلا أنه تم حصارهم بواسطة الأمن السرى (وفى رواية أخرى تعرض بعضهم للاعتقال)، مما حفّز باقى الطلاب الذين رابطوا أمام المبنى محاولين اقتحامه لتحرير زملائهم ليتطور الموقف إلى مواجهات مباشرة بين المتظاهرين وقوات الأمن انتهت بمقتل العشرات. لكن كانت هذه فرصة سانحة لناجى إيمرى ليقود الثورة والتى نجحت فى الصمود لمدة أسبوعين تقريبا قبل أن يتم قمعها بواسطة الجيش الأحمر الذى احتل بودابست ليتم اعتقال ناجى ومحاكمته بتهمة الخيانة ويتم إعدامه لاحقا.
لكن الأهم من تفاصيل الثورة هو رصد كيفية رد فعل الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة على الثورة، لأن سلوك كل منهما كان مشكلا لسياسة تجنب المواجهات المباشرة التى حرص كل طرف على اتباعها حتى نهاية فترة الحرب الباردة.
• • •
فمن ناحية كان يعرف الاتحاد السوفيتى خطورة الأوضاع فى بودابست، وكان على علم برغبة إيمرى ناجى فى إعلان المجر على الحياد وهو الأمر الذى لو سمح به الاتحاد السوفيتى لكان يعنى انفراطا مبكرا لحلف وارسو ومن ثم الكتلة الشرقية! تردد الاتحاد السوفيتى فى تلبية طلب الحزب الشيوعى المجرى بالتدخل وذلك حتى لا يقوم بمخالفة مبدأ عدم التدخل الخاص بحلف وارسو من ناحية، ومن ناحية ثانية حتى لا يؤجج المزيد من مشاعر الغضب بين المتظاهرين المجريين! كذلك فقد أراد أعضاء الحزب السوفيتى تجنب مصير فرنسا وبريطانيا فى مصر بعد العدوان الثلاثى والذى كان متزامنا مع الثورة المجرية! قام الحزب السوفيتى أولا بإرسال وفد دبلوماسى وأمنى لتفقد الأوضاع على الأرض، وكانت التقديرات الأولية للوفد أن الوضع ليس بالخطورة التى صورها الحزب الشيوعى المجرى لنظيره السوفيتى وبالتالى أوصى بتجنب التدخل العسكرى، ولكن بعد ازدياد حدة المظاهرات لم يكن أمام الاتحاد السوفيتى بد من التدخل العسكرى وقمع الثورة واحتلال العاصمة بودابست!
ومن ناحية ثانية شهد الموقف الأمريكى الكثير من التردد والتراجع. فرغم عزم إدارة الرئيس روزفلت على اغتنام فرصة سقوط أى حليف للاتحاد السوفيتى وضمه للكتلة الغربية، إلا أنه تم التراجع عن هذا العزم أمام الثورة المجرية خشية المواجهة المباشرة مع الاتحاد السوفيتى، ففى أثناء الثورة المجرية تم تجهيز خطبة ليلقيها وزير الخارجية الأمريكى فوستر دالاس تتضمن عدم عزم الولايات المتحدة ضم أى دولة فى حلف وارسو إلى حلف الناتو حال انفصالها عن التحالف السياسى والعسكرى مع الاتحاد السوفيتى والتعامل مع هذه الدول على أنها دول «حياد» كما هو الحال بالنسبة للنمسا! لكن وقبل إلقاء وزير الخارجية الأمريكى الخطبة بساعات قليلة رأت الإدارة الأمريكية جعل الإشارة للثورة المجرية مختصرة للغاية لاستبعاد أى اصطدام مع الاتحاد السوفيتى فاكتفى دالاس بالحديث المختصر عن عدم سعى الولايات المتحدة للتحالف العسكرى مع أى من دول الكتلة الشرقية!
• • •
يرى المحللون أن الثورة المجرية كانت هى المدشنة للغة الصراع بين الكتلتين، فقد أدرك السوفييت والولايات المتحدة أن عليهما التعايش مع بعضهما البعض دون أية مواجهات مباشرة أو الدخول فى مواجهة صفرية وهو ما تأكد مجددا مع العدوان الثلاثى على مصر فى نفس الفترة وهو ما نكمل الحديث عنه فى المقال القادم.
ملحوظة: تم الاعتماد فى تحليل مشاورات الحزب السوفييتى والإدارة الأمريكية وتباحث كل منهما بخصوص الموقف من الأزمة على ورقة عمل قدمها المؤرخ المجرى سيسابا بكيش رئيس مركز أبحاث تاريخ الحرب الباردة ببودابست وتم نشرها برقم «٧» فى عام ٢٠٠٢ فى جامعة نيويورك ومتاحة على موقع الجامعة الإلكترونى.
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved