لغز اختفاء كتاب السيد بلانشارد

جورج فهمي
جورج فهمي

آخر تحديث: السبت 22 يناير 2022 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

 

لماذا تملك بعض الأفكار دون غيرها أجنحة تسمح لها بالطيران عبر الجغرافيا والزمن؟ ولماذا تستطيع بعض الكتب أن تشكل محورا للجدل حتى بعد عقود طويلة من كتابتها، بينما تختفى أخرى وينتهى أى ذكر لها؟ شغلنى دوما هذا السؤال حول قدرة بعض الأفكار على الاستمرار، وتراجع أفكار أخرى حتى لا يعود أحد يذكرها. وبعض تلك الأفكار لا تختفى فقط من المجال العام ودوائر النقاش، بل حتى الكتب التى تحملها تختفى من أرفف مكتبة جامعية مرموقة كالجامعة الأوروبية التى درست وعملت فيها. هذا هو حال كتاب الأمريكى بول بلانشارد «الشيوعية والديمقراطية والسلطة الكاثوليكية»، الذى صدر فى العام 1951. فقد اختفى هذا الكتاب من مكتبة الجامعة.
•••

قادتنى قراءاتى خلال إعداد رسالة الدكتوراه حول الدين والديمقراطية فى الشرق الأوسط إلى كتاب بلانشارد عن العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والديمقراطية فى الولايات المتحدة.
لفت انتباهى عنوان الكتاب فبحثت عنه فى مكتبة الجامعة. وجدت الكتاب بالفعل فى قاعدة بيانات المكتبة. دونت رقم التصنيف. بدا الرقم غريبا لى لكنى لم أتوقف كثيرا عنده، وذهبت مباشرة إلى القسم الخاص بالدين والسياسة فى المكتبة للبحث عن الكتاب.
بحثت كثيرا عن كتاب السيد بلانشارد لكن من دون جدوى. فعدتُ إلى إحدى المُشرِفات عن المكتبة لسؤالها عنه. نظَرَت إلى رقم التصنيف وقالت لى: «هذا الكتاب موجود لدينا بالفعل، لكنه فى المخزن. يجب أن تقدم طلبا لكى نأتى به إليك».
أثار هذا الأمر فضولى. فبعد سنوات من التردد على المكتبة لم أكن أعرف بهذا المكان المُسمى بالمخزن. ولم أتعرض لهذا الموقف مع أى من مئات الكتب التى استعنت بها فى إعداد رسالة الدكتوراه الخاصة بى.
سألت مجددا المُشرِفة عن المكتبة عن قصة المخزن، ولماذا تذهب بعض الكتب دون غيرها إلى هذا المكان. ففسرت لى الأمر. تقوم المكتبة بإرسال الكتب الأقل استخداما إلى المخزن بهدف توفير أماكن للكتب الجديدة التى تقتنيها سنويا. فيقوم فريق العمل فى المكتبة بإحصائيات سنوية حول عدد المرات التى تم فيها اقتراض الكتب الموجودة فى المكتبة، وكذلك متى كانت آخر مرة جرت استعارتها فيها. وبناء على تلك البيانات، يرسلون الكتب التى لم يتم استعارتها مطلقا خلال السنوات السبع الماضية إلى المخزن. وهذا ما حدث مع كتاب بول بلانشارد الذى لم يستعره أحدٌ لسنوات طويلة، فكان قرار نفيه إلى المخزن.
• • •
حصلت أخيرا على كتاب السيد بلانشارد. يقدم النص نقدا لاذعا لسلطة الكنيسة الكاثوليكية، ويرى الكاتب أن عقيدة الكنيسة الكاثوليكية والشيوعية السوفيتية هما أكبر تهديدَين للديمقراطية الأمريكية. ومن خلال فصول الكتاب المختلفة يقدم بلانشارد مقارنة بين الكنيسة الكاثوليكية والاتحاد السوفيتى. فيقول فى إحدى الفقرات على سبيل المثال: «إن الفاتيكان يسيطر عليه شخص واحد هو البابا، وكذلك الكرملين يسيطر عليه شخص واحد هو جوزف ستالين. لا يسمح أى منهما لأى أحزابٍ مُعارِضةٍ بالتشكل داخل دوائر سيطرتهما، ولكليهما القدرة على تحديد الصواب والخطأ لأتباعهما من دون مراجعةٍ لما يقولانه». كان كتاب بلانشارد عنيفا فى نقده للكنيسة الكاثوليكية، إلا أن كتابات بلانشارد ليست وحيدة فى هذا الأمر، بل هى تنتمى إلى تيار أمريكى شن هجوما عنيفا على الكنيسة الكاثوليكية فى الولايات المتحدة، متهما إياها بأنها لا تدين بالولاء للدستور الأمريكى بل للفاتيكان. شغلت أفكار بلانشارد النقاش العام فى الولايات المتحدة، وقد كانت بعض كتبه ضمن الأكثر مبيعا خلال خمسينيات القرن الماضى.

فلماذا اختفت إذن أفكار بلانشارد من النقاش العام، وكذلك كتبه من أرفف المكتبات الجامعية؟
• • •
تنبع قدرة الأفكار على الانتشار من قدرتها على تفسير واقع يبدو عصيا على الفهم. وواقعُ تلك السنوات كان رَفضَ الكنيسة الكاثوليكية لقيم الحرية وحقوق الإنسان، وغيابَ الديمقراطية عن الكثير من الدول الكاثوليكية، من ضمنها دول أوروبية كالبرتغال وإسبانيا. فألقت أفكار بلانشارد باللوم على سلطة الكنيسة الكاثوليكية فى تفسير هذا الأمر. بيد أن واقع العالم الكاثوليكى تغير، ومعه تراجعت أفكار بلانشارد وأقرانه.
بعد عشر سنوات فقط من نشر كتاب بلانشارد، بدأت الكنيسة الكاثوليكية عملية مراجعةٍ لمواقفها الدينية من قيم حقوق الإنسان خلال المجمع الفاتيكانى الثانى، الذى امتدت أعماله بين العامَين 1962 و1965، والذى غيرت مقرراته جذريا العلاقة بين الكاثوليكية والديمقراطية. ففى العام 1963، كتب البابا يوحنا الثالث والعشرون رسالته «سلام فى الأرض»، التى أيد فيها الفاتيكان حقوق الإنسان لأول مرة. وبعد ذلك بعامَين، فى العام 1965، كتب البابا بولس السادس إعلان «كرامة الإنسان»، الذى أيد فيه الفاتيكان الحرية الدينية بوصفها حقا أساسيا متجذرا فى الكرامة التى وهبها الله للإنسان.
ومع التغير فى أفكار الكنيسة الكاثوليكية جاء أيضا التغيير السياسى، حيث شهدت العديد من الدول الكاثوليكية فى أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا عمليات تحول ديمقراطى واسعة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. فمن بين 30 دولة تحولت إلى الديمقراطية خلال الفترة بين 1974 و1990، أكثر من 20 منها هى دول ذات أغلبية كاثوليكية. وقد أيدت الكنيسة الكاثوليكية تلك التغييرات السياسية، وهو ما عبر عنه البابا يوحنا بولس الثانى بمقولته الشهيرة: «أنا لست مبشرا بالديمقراطية؛ أنا مبشر بالإنجيل. لكن كل قضايا حقوق الانسان تنتمى إلى رسالة الإنجيل. وإذا كانت الديمقراطية تعنى حقوق الإنسان، فهى الأخرى تقع ضمن رسالة الكنيسة». بهذا الخطاب الكاثوليكى الجديد أعادت الكنيسة الكاثوليكية تعريف علاقاتها بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومعه أنهت جدل سنوات الأربعينيات والخمسينيات فى الولايات المتحدة حول التوافق بين الكاثوليكية والديمقراطية.
اختفت أفكار بلانشارد لأنها ببساطة لم تعد قادرة على تفسير الواقع الجديد للكاثوليكية. فلم يعد يُذكَر بلانشارد ولا كتاباته، وبدأ تيار جديد من الأفكار يحلل كيف استطاعت العقيدة الكاثوليكية تجديد نفسها خلال المجمع الفاتيكانى الثانى، والعلاقة بين مقررات هذا المجمع وبين التغييرات السياسية التى شهدتها العديد من الدول الكاثوليكية.
تقدم لنا قصة كتاب بول بلانشارد إجابة على سؤال هذا المقال. تختفى الأفكار عندما تفقد قدرتها على إضفاء معنى على الواقع الذى تدرسه. هى ليست بالتأكيد الإجابة الوحيدة، ولا شك أن عوامل أخرى تحكم فرص الأفكار فى الاستمرار أو الخفوت. فلا يزال هذا الأمر يحتاج إلى المزيد من البحث.
باحث بمركز مسارات الشرق الأوسط بالجامعة الأوروبية بفلورنسا

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved