عالم يتقن فن الإجرام

مواقع عربية
مواقع عربية

آخر تحديث: الأربعاء 22 فبراير 2023 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع على الطريق مقالا للكاتب نصرى الصايغ، تحدث فيه عن أوضاع الوطن العربى؛ إذ يعيش حالة من الموت السياسى، ويشهد ازديادا فى الصراعات. لكن يرى الكاتب أنه إذا كانت العقائد السياسية والدينية مادة للفتنة، فإن الملجأ فى الفنون حيث الجمال وغذاء الروح. تناول الكاتب أيضا الصراعات الدولية والتى لا تحكمها المبادئ بل ديكورات سياسية... نعرض من المقال ما يلى.
مشهدٌ سوريالى. صعبٌ أن تصدّقه. إنه فى غاية الإبداع الجهنمى. المكان: فى إفريقيا. الزمان: لا وقت له. يمتد إلى عقود. الحدث: الفصل التام بين الأثرياء والفقراء.
المدينة واضحة المعالم: هنا، الأحياء الباهظة والباذخة والفاقعة. عمارات فخمة. شوارع نظيفة ومترفة. فائض من الغنى والثروات. أجواء ما فوق أرستقراطية. محروسة من شرطة يقظة. كاميرات مراقبة. أمن مضمون. الاختلاط ممنوع. الفصل تام وقاس: هنا للأغنياء، وهناك للحثالات، من أطفال عراة، وفتيات بائعات هوى، ورجال منكسى الحياة، وأصدقاء مخلصين للتراب وقذارة المبيت والطرق. على الجهة الواطية من المدينة، ثانى عاصمة بعد جنوب إفريقيا، مخيمات بالية. رجال من قش. فتيات يبعن بالمطاعم أجسادا لم تعد لهن. يتسللون إلى الأمكنة الفاخرة الممنوعة، بحثا عن طعام مرمى، عن أوراق، عن كتاب. طافرون وطافرات من مخيم مكتظ بالبؤس والشيخوخة المبكرة. مدمنون على النسيان. الحشيشة. السرقة. الشرطة ساهرة وعينها مصوبة دائما على الحفاة. تُروّج لهم المخدرات. تمنعهم بالقسوة من التسلل. الاختلاط ممنوع. هنا الجنة وملائكتها الأثرياء. وهناك الجحيم والأمراض والعدوى وأوساخ المدينة. ولمّا عجزت الشرطة عن منع التسلل، قررت أن تُطلق الرصاص على الأرجل. نجحت الرماية. هنا مدينة الأصحاء، وهناك مخيمات اللقطاء. ربحت الشرطة الرهان: صوَّبت على الأرجل. بعدها ارتاح الأغنياء من أصحاب الأرجل المثقوبة بالرصاص. هذه صورة عن عالم اليوم وعوالم الهمج.
• • •
ننتقل الآن إلى لب المأساة. تلك المدينة ليست يتيمة. شقيقاتها معروفات فى هذا العالم وفى جميع القارات. كلنا فى غابة. لماذا لا تخجل البشرية من همجيتها؟ المصائر الإنسانية دمية بشعة. اللغة التى نلوكها تتعامى عن البشاعات. تصنع حاضرا كاذبا مضادا للأخلاق والجمال. أما اللغة، ففى كل وادٍ تهيم. لغة فضفاضة، كاذبة، فارغة. طاعون طاغ والضحايا يبتسمون بأسنان مسننة. نلجأ إلى الشعارات الباهرة. شعارات مثالية كاذبة. مبتذلة. عاقرة. اللغة نفى للواقع والوقائع، والصور توبيخ انتقائى. إذا، نحن ضحايا ونحن مرتكبون ومدربون على نسج أكاذيب نُصدّقها. ندعى البراءة. نُناقش فى أيّنا على صواب. والصواب مستحيل. نلجأ إلى مفردات وعناوين. نلوكها. نطالب بسلطة القوانين. يا حرام! هذه كلمة غير بريئة. الكلمات سلاح مضاد للواقع، ومانعة للأحلام الممكنة. قوانين دولية ذات أنياب مضادة للأحلام والحرية. القوانين الدولية حجاب ولبوس. أما السياسة، فمهنة حقيرة وخطيرة. إنها داء لا دواء. فى تراثها البشرى، إعدام للحقوق والقضايا. الصح هو مع الأقوى. الأقوياء مفترسون ودمويون. السياسات العليا أفيون الشعوب وطمأنينة الطغاة. السلطة تُسيَّل الثقافة. هى خرقة مصانة. ممسحة. وسيلة جميلة للارتكاب. تنزع عن الثقافة أنيابها. تعير سلطة متسلحة بعفة كاذبة. مع الاعتذار الشديد، الثقافة العمومية راهنا، هى خرقة أو ممسحة. وفى غياب الثقافة، تصير اللغة لغوا. ثم، وداعا لكل ما يحتاجه الإنسان من نبل وآفاق ورؤى. إذا لم يكن ذلك كذلك، فماذا إذن؟ كيف نقرأ العالم اليوم؟ عالم يعيش على إيقاع النزف الدائم. الحرب المجنونة. الظلم الكوكبى. الاجتياح المستدام. التلفيق الفائز. دول عظمى فى أدنى مستويات الحقارة. مزينة بالنياشين وأقواس النصر وحاضرة دائما، يعنى دائما، على شاشات القول.. والقول التالى. إلى نهاية الجملة التى لا تنتهى. عالم مدرب على تنظيم الاحتلال وتشريع الحروب. عالم مسكون بإرهاب شرعى. ضد إرهاب انتقائى وهمجى. ألا ترون أن السياسة تجارة رابحة جدا. ثم ما نفع المعرفة؟ أين تقيم القيم؟ أين جهات الحرية؟ أين ثكنات الإرهاب؟ أليس الظلم المستدام إرهابا علنيا؟ العسكرة إرهاب. الاحتلال إرهاب. الحروب ذروة الإرهاب. الجامعات الراهنة تُخرّج حراسا لحماية الواقع، وحماية الجرائم التى سترتكب مع التوحش الكونى. قادة الأخلاق تراجعوا إلى الخطوط الخلفية. الأخلاق: إنسَ. التجارة إله. الرأسمال إله الآلهة.
• • •
نعيش حالة نغشُّ فيها أنفسنا. نتمسك بالمبادئ والأخلاق والقيم والحرية والمساواة والعدالة والكرامة. هناك شعوب لم تذق بعد طعم الحرية وتبشّر بالعدالة والتفوق. لا حداثة أبدا من دون حرية للإنسان. الإنسان الحقيقى هو الإنسان الحر. من اختار السوق ميدانا ومرجعا، يصبح رقما، فى سلسلة أرقام، تتعايش فى ما بينها، على قاعدة المضاربات والأرباح وشراء الأسهم. البورصات عواصم عالمية. العواصم الإدارية تراجعت أمام الهجوم الكاسح للأسهم وللعنف الضرورى لاستمرار إنتاج الحروب.
ماذا بعد؟ كم حربا اليوم؟ كم حربا بالأمس القريب؟ كم حربا نهجس بها الآن؟ الكرة الأرضية تتدحرج. العنف داؤها ودواؤها.. الحروب إنفاق مشتهى. توظيف بورصة. لا قيمة للدماء. لا ثمن للقتل. الحروب إذا تجارة رابحة. موتوا أيها الأبرياء. نحن كعرب، نعيش موتنا السياسى. دفنوا إنسانيتنا. طلاق مبرم مع الأفكار النبيلة والقيم. الإنسان العربى منفى. الإنسان سلعة. بضاعة. العقائد والقيم لم تعد تنجب وقائع معقولة. الأديان من جهتها ملتزمة سياسيا واقتصاديا وماليا، بعافية الإيمان الغلط بإله لا يمت إلى السماء بصلة قربى. أى جحيم هذا هو جحيم الأرض؟
نستطيع أن نجد ملجأ فى الفنون. إذا كانت الأفكار مدافن الشعوب، فإن الفنون الجميلة، هى النافذة المشرّعة على الجمال والإنسان. ألم نلاحظ أن الفلسفات والأفكار والعقائد السياسية والدينية كانت مادة فتنة وبؤرة نيران وحروب. الفن والشعر والمسرح والرسم والنحت والموسيقى إلخ.. جعلت الإنسان أمام سماء تتسع فى هذه الأرض. الفن منح الإنسان أجنحة للطيران. وطريقا إلى تأليه الجمال، وتجميل ما هو عادى وأقل من العادى. خيانة العقل مزمنة. منذ البدايات وما قبل الدين. العقل بلا أنسنة يستفحل. يستسلم للغش والقوة والقسوة. الحروب نتاج عقول جائعة ولا تشبع. عقول اجتياحية ومدمرة وصانعة أقدار ومحطمة آمال. القرن العشرون، هو قرن صعود العنف إلى ذروته واختمار رأس المال إلى حد إعدام مدن ودول وشعوب. حربان عالميتان. ومن دون التوغل فى هذا الماضى القريب، العالم راهنا فخورٌ بحروب طاحنة، وفخور بعنف من كل الأنواع والمصادر. عنفُ دول رأسمالية اجتياحية تريد أسواقا مطيعة ونهمة. عنف جماعات مؤمنة بالحرية والعدالة. عنف جماعات دينية ترتكب أبشع أنواع القتل. علينا أن نتأكد إن كان لدى هذا العالم مبادئ معقولة. أبدا. المبادئ ديكورات سياسية. المهم أن تفوز بمعركتك ولو أفنيت قيما وجماعات ودولا. الرأسمالية بحاجة إلى اجتياحات. الولايات المتحدة لا ترغب فى أن تنافسها روسيا أو الصين. لسنا فى الحسبان. نحن خاضعون لجملة تبدأ بفعل أمر. لا استشارات. اخضعوا، جوعوا، موتوا، سنحاصركم حتى نأتى إلى خلاصكم باستسلامكم. وحدها إسرائيل غير خاضعة لهذا المنطق. هى تُستشار ولا تقبل الأوامر. سُلطاتنا مجرد خدم صغار على موائد كبار اللئام. ماذا بعد؟ أظن أن الأفق أسود فاحم. لا ضوء فى الأفق. إننا نسقط إلى ما تحت الأسفل النهائى. حرام. هذا عالم يتقن فن الإجرام. والله حرام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved