لا حداثة عربية إلا عبر المُنجَز النسائى


قضايا المرأة

آخر تحديث: الإثنين 22 أبريل 2019 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة «فاطمة واياو» تناولت فيه إنجازات النساء فى الوطن العربى التى ترى أنها لم تأخذ حقها فى كتب التاريخ..

تحتفل النساء العربيات هذه السنة بمرور 100 سنة على التظاهرة النسائية المصرية، التى تزعَمتها هدى شعراوى سنة 1919، والتى كانت حدا فاصِلا بين مُجتمع الخنوع والعزل ومُجتمع المُشارَكة والاندماج للمرأة المصرية فى الحياة العامة. وبهذه المناسبة يتوجَب استحضار بعض محطات المُنجَز النسائى العربى الذى لم يَأخذ حقه فى كُتب التاريخ، بل هُمِش لتُصبح الذاكرة العربية ذكورية بامتياز.

تناقَلت وسائل الإعلام فى المغرب فى الأشهر الأخيرة خصوصا، خبرَين فريدَين يحملان معانى الكرم والوعى والأمل. يتعلَق الأول بتبرُع السيدة فاطمة المدرسى من مالها الخاص لبناء «المدرسة العليا للتجارة والتسيير» التابعة لجامعة محمد الأول فى مدينة وجدة شرق المغرب.

والخبر الثانى من مدينة سطات المغربية، حيث تبرَعت السيدة نجية نظير، وهى سيدة أعمال، بما قدره أكثر من مليار سنتيم من مالها الخاص لبناء ثانوية تأهيلية، وتأهيل وحدة مدرسية فى دائرة ابن أحمد الجنوبية التابِعة لمدينة سطات المغربية، وهى منطقة ريفية.

قد يبدو الخبران عاديَين إذا ما كنا فى دول أخرى، وليس فى المغرب. من هنا الاهتمام بالخبرَين؛ ذلك أن السيدتَين ليستا فى لائحة أثرياء العالَم الوارِدة فى مجلة «فوربس». تتخذ المُبادَرة أهميتها لكَون السيدتَين تبرَعتا لمصلحة قِطاعٍ حيوى يَعرف الكثير من الهشاشة وسوء التسيير؛ إذ إن وضعية التعليم المُزرية تصنِف المغرب فى مَرتبة متأخِرة بحسب تقارير الأُمم المتحدة للتنمية.

غير أن هاتَين المُبادرتَين تأتيان من سيدتَين تنتميان إلى بلد فاطمة الفهرية التى تبرَعت لبناء أول جامِعة وأقدمها فى التاريخ، وهى جامعة القرويين فى فاس. ويُمكن اعتبارها مَغاربية، حيث إنها وُلدت فى تونس، ثم نزحت برفقة عائلتها إلى مدينة فاس المغربية، وبعدما توفى والدها وزوجها، ورثت عنهما ثروة هائلة، نَذرت جزءا منها لبناء جامع القرويين، الذى ما يزال صرحه شامِخا إلى يومنا هذا.

تحكى كُتب التاريخ أن السيدة فاطمة الفهرية، وهى فاطمة بنت محمد الفهرى القيروانى، المعروفة بأم البنين الفهرية، هى مؤسِسة أول جامعة فى العالَم فى بلاد المغرب الأقصى، وهى جامعة القرويين. وماتت السيدة فاطمة نحو 266 هـ ــ 878م. ويورِد المؤرِخ العلامة محمد المُنتصِر بالله الكتانى فى كِتابه «فاس عاصمة الأدارِسة»، أن «جامعة القرويين تُعد أقدم جامعة فى العالَم، وقد سَبَقت جامِعة الزيتونة فى تونس، والأزهر فى مصر. كما أنها تُعد أقدم من جامعات أوروبا بمائتَى عام إلا تسع سنين».

***
جدير بالذكر والتذكُر أيضا، أن سيدة كريمة أخرى هذه المرة من أرض مصر، هى الأميرة فاطمة إسماعيل، التى وُلدت سنة 1853 وتوفيت سنة 1920، وهى إحدى بنات الخديوى إسماعيل، كانت مُحبَة للخير والعمل العام، وخصوصا فى مجال العِلم والثقافة. لذلك، عندما اطَّلعَت الأميرة فاطمة على الصعوبات المالية التى تعانيها الجامعة المصرية، بادَرت إلى تخصيص مساحة من أراضيها الزراعية وقفا على الجامعة، حتى يجرى رَيعها المادى على الجامعة، فتَضمَن بذلك مَصدرا للتمويل.

كما تبرَعت بجواهرها الثمينة لتوفِر للجامعة سيولة مالية عاجلة، وامتد كرمها إلى مَنْح الجامعة مساحة من الأرض ليُقام عليها الحرم الجامعى. كما شاركت فى وضع حجْر الأساس للجامعة المصرية. ومع كل هذه الإرادة والكَرم، تورِد المَصادِر أن المرأة المصرية كانت تعيش فى عزلة تامة لدرجة أن الأميرة فاطمة المُتبرِعة، حُرمت من حضور حفل تكريمها.

ويورِد د. جابر عصفور فى إحدى مقالاته، أن الأميرة فاطمة إسماعيل لم تَستمع مع الحضور إلى قصيدة أحمد شوقى التى مدحها بها واضطرَت إلى أن ينوب عنها أبناؤها الذكور ووكيل أعمالها، وظلَت هى حبيسة جدران قصرها، والسبب فى ذلك أن تقاليد المجتمع المصرى ما كانت تسمح لامرأة أن تحضر احتفالا عاما للأمة وأن تُشارِك فيه، أو أن تكون مَوضع التكريم منه (صحيفة البيان الإماراتية، 27 /10 / 1999).

***
والسؤال الذى يُمكن طرحه بهذا الصدد: هل الذاكرة العربية ذكورية إلى حد تهميش المُنجَز الأنثوى؟ سؤال قد يبدو غريبا، ولكن إذا ما تمعنا فى التاريخ الفكرى العربى، وخصوصا النسائى، نقف عند هذه الحقيقة الصادمة بالعودة إلى قضية المُناداة بتحرير المرأة وتمكينها من المُشارَكة فى الحياة العامة، حيث نَجد أن مَن أستأثرَ باهتمام الذاكرة العربية، مثلا فى هذا المجال، هو قاسم أمين، وذلك بمؤلَفَيه «المرأة الجديدة» و«تحرير المرأة»، حيث اعتُبر رائد تحرير المرأة فى مصر والعالَم العربى. ولئن كنا لا ننكر فضله على المرأة المصرية والعربية عموما، فإن ملك حفنى ناصف، كانت أول امرأة تنادى عَلَنا بتمكين النساء من المُشارَكة فى الحياة العامة وفى التحصيل العِلمى.

أسسَت ملك حفنى ناصف «اتحاد النساء التهذيبى» بهدف توجيه المرأة إلى السُبل الكفيلة بإصلاح أحوالها والنهوض بوضعيتها. كما كوَنت جمعية لإغاثة المنكوبين المصريين والعرب، والتى تُعتبَر النواة الأولى لِما سيُعرف فى ما بعد بالهلال الأحمر. وأقامت فى بَيتها، وعلى نَفقتها الخاصة، مدرسة لتعليم الفتيات مِهنة التمريض، ومثَلت المرأة المصرية فى المؤتمر المصرى الأول العام 1911 لبحث وسائل الإصلاح، وقدمت فيه المَطالب التى تراها ضرورية لإصلاح حال المرأة المصرية. وعندما أُعلن عن مشروع الجامعة المصرية، كانت «ملك» الآنسة الوحيدة التى ألَفت لجنة لدعم المشروع الكبير، وجَمَعت قدرا من المال حتى يتحقَق أمل البلاد بظهور جامعة حديثة. لقد ترَكت ملك حفنى ناصف مجموعة مقالات كانت توقِعها باسم باحثة البادية، والتى صدرت فى كِتاب تحت عنوان «نسائيات»، وهى أول امرأة مصرية تنال الشهادة الابتدائية وشهادة التعليم العالى لاحقا. وهذا الإنجاز هو الذى مكَن واحدة مثل هدى شعراوى من ولوج الجامعة وحمْل مشعل تحرير المرأة المصرية، وبالتالى أن تكون نواة الحركة النسوية العربية فيما بعد.

أما إذا انتقلنا إلى لبنان، فإننا نجد اسما نسائيا آخر تم تهميشه، على الرغم من أن صاحبته عاصرَت رواد النهضة العربية؛ يتعلق الأمر بنظيرة زين الدين التى ألَفت كِتاب «السفور والحجاب». ونظيرة زين الدين، المولودة سنة 1907، كانت أول عربية تنال شهادة البكالوريا فرع العلوم وذلك سنة 1928، وكِتابها «السفور والحجاب» يتجاوز مسألة اللباس بطرْحه قضية المرأة العربية بشكلٍ شمولى، حيث طالَبت بحق المرأة فى التعلُم، وفى الاجتهاد، وفى المُشارَكة فى الحياة العامة، بما فيها الحُكم؛ وفى سنة 1929 صدر كِتابها «الفتاة والشيوخ» الذى طالبت فيه بحق المرأة فى الاجتهاد والشرح والتفسير للآيات والأحاديث.
***
واليوم ونحن نحتفل بمرور 100 عام على المُظاهرة النسائية الشهيرة بقيادة هدى شعراوى، التى نظَمت يوم 20 مارس 1919 للتنديد بالاحتلال البريطانى، نتذكَر أنها كانت أول مُظاهَرة نسائية فى التاريخ العربى الحديث. وهنا يجدر بنا ألا نُغفل ما أَنجزته النساء عبر تاريخ مصر إلا إذا كان أحدنا أو إحدانا، يتعمد أو تتعمَد، تكريس ذكورية المُنجزات. وليس أدل على ذلك من الاهتمام الذى حظيت به كِتابات المُصلحين الذكور، فى حين تم إهمال ما أَبدعته النساء من سرديات مُختلفة؛ فهل تُدرَس الروائيات العربيات والشاعرات العربيات مثلا، اللواتى طَبعْنَ الحياة الأدبية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؟ وهل يُمكن لأحد اليوم أن ينكر أن تحديث المجتمع وتقدمه لا يُمكن أن يتم إلا من خلال تحرير المرأة، وهى حقيقة سبق أن أشار إليها المفكر هشام شرابى فى كِتابه «النظام الأبوى وإشكالية تخلف المجتمع العربى» قائلا: «إن الحركة النسائية هى الفتيل المؤهَل لإشعال فتيل النظام الأبوى من الداخل... وستُرسِخ نفسها على أنها حجر الزاوية الذى سيقوم عليه نِظام الحداثة».

فهل لى أخيرا أن أكرِر ما سبق وأن صرَح به أيضا المفكِر هشام شرابى، من أن المجتمعات العربية لا تُحسن الإصغاء للنساء، وهى قضية جوهرية فى اعتقادى، على اعتبار أن هذا ما دأب هذا المُجتمع، مُمثَلا فى الرجل بخاصة، على فعله، ما جعلَ التاريخ العربى يُهمِش النساء، لأنه كان دائما تاريخا نخبويا وسلطويا.

وإننا اليوم نرى ضرورة إعادة كِتابة التاريخ الفكرى والسياسى العربى من خلال الاهتمام بالوضعية الاجتماعية لكل الفئات المُهمَشة (كالفقراء، والعبيد، والجوارى، والأطفال، والنساء) ومن ضمنها النساء المُبدِعات، لكى نُعيد بعض الاعتراف للمُنجَز النسائى العربى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved