خريف آخر للبطريرك

داليا سعودي
داليا سعودي

آخر تحديث: الإثنين 22 أبريل 2019 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

على المنتديات الإلكترونية السودانية، لم أتعجب من تواتر ذكر رواية «خريف البطريريك»، رائعة الأديب الكولومبى جابرييل جارسيا ماركيز. فلقد حفلت المدوناتُ فى البلد الشقيق بملخصاتٍ للرواية الأشهر فى أدب السلطوية، الذى عُرفَت به بلدان أمريكا اللاتينية لشدة ما عانت على مر تاريخها من صروف الاستبداد. ولعل عنوان الرواية قد أثر أيضا فى اختيار الأستاذ محمد حسنين هيكل لاسم كتابه «خريف الغضب» الذى لم يكن موضوعه بعيدا عن تفحص الظاهرة، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا فى طريقة العرض أو فى بعضٍ من التفاصيل. لكن لعمل ماركيز الأدبى أبعادا أخرى تمنحه أجنحةً ترتفع به فوق الزمان والمكان.

***
«لم نكن بحاجة إلى خلع المدخل كما كنا ننوى فقد بدت البوابة الرئيسية وكأنها تفتح بقوة ضغط الصوت فقط».. يقتطف مدونٌ من عطبرة هذه العبارة التى ترد فى الصفحات الأولى من الرواية، حين دخل الناس على حاكمهم الأبدى ووجدوه صريعا فى منعزله فى دار السلطة. «الصوت وحده أسقط البوابة»! كتب المدون السودانى لقارئه، فتلوح فى مخيلتى الأيقونة الثورية «حبوبتى الكنداكة» «آلاء صلاح» فوق سطح السيارة وهى تصدح بقصيدتها فى ثوبها الأبيض التراثى وحلقها القمرى الوضّاء، فتلهب الحناجر من حولها!

نعم، الصوت وحده أسقط بوابة الخوف فى مطلع رواية ماركيز بعد أن سبقته الكواسر وحطمت بمناقيرها زجاج القصر. تبدو التفصيلة واقعية وسط هذا العمل الروائى الحافل بالغرائبية والجنون المحموم. هى ليست تماما الواقعية السحرية التى عُرف بها ماركيز وعُرفت به، تلك التى تُدخل لمحات من الخيال وسط تفاصيل الواقع اليومى، بل لعلها رصدٌ لجنون الواقع وفجاجته، وانفلاتٌ لسردية البطل الديكتاتور عن مقياس العقل وقصد الضمير.

ففى هذه الرواية المجنونة التى بدأ ماركيز فى تخزين مادتها منذ كان مراسلا صحفيا فى خمسينيات القرن الماضى، تتماهى مع شخصية البطل وجوه عتاة المستبدين بدءًا من «خوان ﭬينسينتى جوميز» حاكم ﭬينيزويلا، إلى «جوستابو روخاس بينيّا» چنرال كولومبيا، مرورا بالسفاح «ﭬولجنسيو باتيستا» الذى أسقطته ثورة «فيدل كاسترو»، والچنرال «فرانكو» فى إسبانيا الذى خلّد «پيكاسو» آثار دمويته فى لوحته الخالدة «جرنيكا». استلهم ماركيز مشاهد من حيوات هؤلاء وغيرهم لكى يدخل بنا إلى عقل الديكتاتور ويسمعنا بداخله دبيب الأفكار المروعة حَدَّ الضحك الهادر من فرط الهول. وهو لن يحتاج كما «بلزاك»، رائد الواقعية الروائية، أن يستهل روايته بالعبارة الشهيرة: «كل ما تقرأونه بين دفتى هذا الكتاب وقائعٌ مشهودة»، لأنه يفضل أن يترك لسرديته «الواقعية» مخالبها السحرية من دون تقليم.

عندئذٍ، يكتسب الواقع بفعل الشك سمتَ الأسطورة العابرة للبلدان والأزمان.

***
لم يقترب أحدٌ كل هذا الاقتراب من ذهنية السلطوية الأبوية. اقترب الروائى والصحفى البيروﭬى «ماريو ﭬارجاس يوسا» اقترابا بارعا فى رواية «حفلة التيس»، واقترب جورج أورويل من بيروقراطية الدولة الشمولية فى روايتى «1984» و«مزرعة الحيوانات». لكن أحدا لم يجلس ويتربع داخل عقل الديكتاتور ويمنحه لسانا راويا بكل هذا الهذيان المخيف بمثل ما فعل جابرييل جارسيا ماركيز فى «خريف البطريرك». فهو يمنحه الكلمة الأولى والوحيدة طوال صفحات الرواية التى لا تتعدى ثلاثمائة صفحة لكنها تُشعر قارئها بأنها لا تنتهى بسبب الأسلوب الذى انتهجه الكاتب. فالفصل الواحد من فصولها العشرة يتكون من فقرة واحدة، تستطيل فيها الجملُ لتبلغ أكثر من ست صفحات من دون فواصل أو وقفات حتى بين عبارات الحوارات. وكأن القارئَ معتقلٌ داخل خطاب الراوى المستبد، مسجونٌ داخل تيار الوعى الواحد المسترسل فى سرديته المفروضة بطغيانٍ على سامعها. سردية تحاكى فى استبدادها عقل صاحبها وتفرض على اللغة ما فى الفكر من عطب استحواذى وما فى الضمير من فسادٍ وشعورٍ بعدم الأمان!

***
وفى الرواية بعدُ، كلُّ أنواع الشطط والمبالغات اللامعقولة. فالبلاد تحتفل بمئوية جلوس حاكمها المستقر على عرشه؛ ويتناول أفراد الحكومة فى حفل العشاء الذى دعاهم إليه الزعيمُ طبقا مكونا من جثة أحد القادة بعد شيّه وتزيينه بالقرنبيط والبقدونس؛ وتصور شطحاتُ الخيال بين الأحداث اللاهثة قرارَ الحاكم الذى يضطر إلى بيع المحيط الكاريبى، نعم المحيط الكاريبى، لتسديد ديون البلاد! فنطالع كيف يُقطَّع المحيط قطعة قطعة، ويتم بيعه للأجانب ليتبقى مكان المحيط صحراء جرداء، وترزح البلاد تحت نير الفساد.

***
يحاكم اليوم عمر البشير بتهم فساد مالى. لم يتم تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية التى أدانته بجرائم حرب فى دارفور، ولم توجه إليه تهمة قتل المتظاهرين الذين سقطوا طوال شهور الاحتجاجات. لكن الصوت كما أوردت الرواية كان كفيلا بإسقاط البوابة الكبيرة التى يقبع خلفها البطريرك. ستة أيام من الاعتصام السلمى لمئات الآلاف من أبناء الشعب السودانى أمام مقر وزارة الدفاع. وكان الصوت سببا لبداية مسار الخلاص ليقبع البشير فى سجن «كوبر»، الرهيب الذى احتفظ باسم المسئول البريطانى الذى أداره إبان احتلال بريطانيا للسودان. الطريف أن بطريركا آخر، هو معمر القذافى، زار سجن كوبر بعد انقلاب البشير على حكومة الصادق المهدى، وحطم جزءا من سور السجن للتعبير عن الحرية وإسقاط الديكتاتورية. لكن ما إن وصل المطار عائدا إلى ليبيا حتى كان السور قد أعيد بناؤه، ليظل رمزا لرهبة القمع فى نفوس السودانيين حتى كان خريف البشير.

***
يقول بعض الخبثاء إن أحد نماذج السلطويين الذين استقى منهم جابرييل جارسيا ماركيز شخصية البطريرك المهووس هو فيدل كاسترو، الذى كان ماركيز من أقرب المقربين إليه. فالمشابهة لا تتعدى الصفات النفسية للشخصية فحسب، لكن تلك الأبقار التى ترعى فى أروقة القصر الخاص بطاغية الرواية كانت موجودةً حقيقةً فى قصر كاسترو الذى كان يرجو أن تنتج له نوعا خاصا من الألبان. وحين كان يُسأل الأديب عن مبررات اقترابه من كاسترو الذى عُرف بانتهاكاته لحقوق الإنسان كان صاحب «خريف البطريرك» يجيب فى أريحية غامضة قائلا: «أوَ تعلمون ما كان لهذا القُرب من فائدة فى تحرير المئات من السجناء بكلمة منى أو نصيحة؟».

لكننى أرى أن الأديب ما اقتربَ إلا ليرى، و لم يرَ إلا ليروى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved