حكايات فى غياب المؤسسات

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الإثنين 22 أبريل 2019 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

نشرت جريدة الشرق الأوسط مقالا للكاتب «غسان شربل» وجاء فيه؛ ذات يوم كلفت الأمم المتحدة فريقا بإجراء تعداد سكانى فى دولة إفريقيا الوسطى التى كانت تعيش فى قبضة الإمبراطور بوكاسا. بعد انتهاء الأعمال استقبل الإمبراطور الفريق الذى قال رئيسه التونسى إن النتيجة أظهرت أن عدد السكان هو أربعة ملايين ونصف المليون شخص. انزعج صاحب القرار. لا يريد أن يكون إمبراطورا لدولة صغيرة. رد بأن عدد السكان هو عشرة ملايين نسمة. وحين رد الخبير التونسى لافتا إلى ما أظهره الإحصاء، أمر الإمبراطور بإلقائه فى السجن ولم يخرجه منه إلا بعد وساطات إفريقية وأممية. لا يحق للأرقام التمرد على إرادة الحكام. قبل ذلك كان بوكاسا أنفق ربع الميزانية على حفل نصب نفسه فيه إمبراطورا. وحين سُئل عن المبالغة، قال إنه لم يفعل سوى الاقتداء بنابليون.

روى رجل أعمال فرنسى أنه كان على يخت الرئيس الزائيرى موبوتو سيسى سيكو. وخلال الرحلة استاء الرئيس من أداء أحد النُّدُل، فأمر برميه فى النهر طعاما للتماسيح... وهكذا كان.

ذات يوم زار متملق من ساحل العاج العقيد معمر القذافى وأقنعه بأن زعامة ليبيا قليلة عليه، وأن لقبه الحقيقى يجب أن يكون «ملك ملوك إفريقيا». دغدغت اللعبة مشاعر الرجل المريض. أمر بإقامة احتفال. لم يكن فى إفريقيا ملوك، بل سلاطين فى مجموعات وقبائل. ولم يكن أمام مساعدى القائد غير البحث عن تاج، واشتروه واحتفلوا معه. وكان القذافى قبل هذا أمر بإبلاغ العالم أنه لا يقبل بلقب الرئيس، بل «قائد الثورة» ثم غير اللقب ثانية إلى «القائد الأممى الثائر» إلى أن أصبح «قائد الثورة وملك ملوك إفريقيا». ولم يكن أمام الخارجية الليبية غير إبلاغ العالم باللقب الجديد.

وذات يوم استدعى القذافى وزير الخارجية وخبيره الأفريقى على عبدالسلام التريكى. والمهمة بسيطة. قال له: «تنقل رسالة إلى (الملك) الحسن الثانى وتقول له فيها بالحرف وبوضوح: أنت خائن وعميل».

وذات يوم وقف القذافى على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة وتعمد أن تكون كلمته أطول من كلمة باراك أوباما. حاول أمام الكاميرات تمزيق ميثاق المنظمة الدولية، وحين لم ينجح رماه أرضا، وطالب مندوب ليبيا لدى المنظمة الدولية بإعادة تحريك التحقيق فى اغتيال الرئيس جون كيندى. ولم يغبْ عن باله لاحقا مطالبة وزير خارجيته بالعمل من أجل طرد سويسرا من الأمم المتحدة وتقسيم السعودية.

وذات صيف غزا الجيش العراقى الكويت. وبعد ساعات استدعى إلى مقر القيادة العامة وزير الدفاع العراقى ومعه رئيس أركان الجيش ليبلغهما أحد الضباط أن الجيش اجتاح الكويت. وبعد أيام سيبلغ صدام حسين الرجلين أنه فضّل، من أجل السرية، استخدام وحدات تأتمر مباشرة بأوامره.

ما تقدم لا يندرج فى باب الأخبار الطريفة التى يمكن العثور عليها فى الإنترنت. إنها حفنة من روايات كثيرة سمعتها من الرجال المعنيين بالأحداث؛ وبينهم وزير الخارجية الليبى السابق عبدالسلام التريكى، والفريق أول نزار الخزرجى رئيس أركان الجيش العراقى ساعة الغزو.

تُذكّر هذه الروايات بما يمكن أن يتعرض له بلد من البلدان حين يستولى على الأختام فيه رجل لا علاقة له بفكرة الدولة وإدارة شئون الناس، ولا علاقة له أيضا بالاقتصاد وحقوق المواطن، ولا بالمواثيق الدولية وموازين القوى والقانون الدولى والأعراف المعمول بها فى التعامل بين الأمم. تُذكّر هذه الروايات أيضا بالمأساة التى يشكلها غياب المؤسسات. هل كان للغزو العراقى الكارثى للكويت أن يحدث لو كانت هناك مؤسسة لا بد من المرور عبرها ويملك أعضاؤها حق إبداء الرأى والتنبيه إلى المخاطر والانعكاسات؟ وهل كان باستطاعة القذافى مثلا أن يأمر فى 1975 بخطف وزراء منظمة «أوبك» مع تعليمات بقتل الوزيرين الإيرانى والسعودى لو كانت فى طرابلس مؤسسات كفيلة بلجم القرارات المتهورة المجنونة؟

نكتب لأن دولا عربية عدة دفعت ثمنا باهظا للغياب المفاجئ لـ«المنقذ» الذى أقام طويلا وهندس «دولته» على قاعدة وحيدة؛ هى استمراره فى القصر مع المحيطين به. لا قبول بفكرة المؤسسات وفصل السلطات. والمعيار الوحيد هو الولاء، بعيدا عن الكفاءة وهمومها. هكذا يصبح البرلمان برلمان القائد. والأمر نفسه بالنسبة إلى الجيش والقضاء. وحين تهب العاصفة وتجرف «المنقذ»، يحصل الانهيار الكبير، ويخرج البلد عاريا لمواجهة الأحداث، فيقع فى الفوضى القاتلة، أو فى يد الميليشيات، أو التدخلات الأجنبية. رأينا المشاهد العراقية غداة اقتلاع نظام صدام. ولا نزال نعاين ويلات الانهيار الكبير الذى أعقب شطب القذافى ونظامه.

شاهدنا فى الأيام الماضية كيف استرجع السودانيون قدرتهم على الحلم بأيام أفضل. وشاهدنا الجزائريين فى مليونياتهم السلمية يعبرون عن توقهم إلى دولة جزائرية لا تكون أسيرة التسلط وحلقات الفساد المحيطة بصاحب الأختام. وسمعنا فى الشارعين السودانى والجزائرى دعوات ملحة إلى محاكمة من تسلطوا على الناس وتلاعبوا بلقمتهم. والأمر مشروع ومفهوم. لكن الأهم من محاسبة الماضى هو فتح بوابات المستقبل. وهذا يعنى بناء توافقات سياسية تشدد على فكرة الدولة العصرية والمؤسسات.

حان وقت الخروج من الألعاب القديمة المكلفة. المطلوب رئيس طبيعى لدولة طبيعية تعيش فى ظل المؤسسات وحكم القانون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved