اليوم التالى فى الشرق الأوسط

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 22 أبريل 2020 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

يصعب بقاء أحوال النظم وموازين القوى فى الشرق الأوسط على ما هى عليه بعد انقضاء جائحة «كورونا» المستجد.
هناك اعتباران رئيسيان سوف يتحكمان فى صياغة مشاهد اليوم التالى.
الأول ــ وقع التجربة المريرة فى أوساط الناس العاديين والنخب العامة على حد سواء، ومدى الأضرار البشرية والاقتصادية وقدر مسئولية النظم فى عيون مجتمعاتها.
هذه مسائل تدخل فى حسابات الشرعية وتضرب فيها عند الجذور، وما هو محتم من تغييرات مسألة وقت.
والثانى ــ حجم التغييرات فى النظام العالمى بعد انقضاء الجائحة، حقائقه وموازينه الجديدة، التى سوف تنعكس فى الشرق الأوسط قبل أى إقليم آخر فى العالم بقدر ما يشهده من أزمات وصراعات وحروب.
إلى أى حد يتراجع الوزن الدولى للولايات المتحدة فى عالم ما بعد «كورونا»؟
هذا سؤال إجبارى قبل أى نقاش.
إذا ما تراجع الدور الأمريكى بدرجة أو أخرى فإن انعكاساته على صراعات وأزمات الإقليم وموازين القوى فيه سوف تتخطى أى قدرة حالية على التخيل.
النظرة إلى إسرائيل وأدوارها سوف تختلف، والرهانات على التطبيع المجانى معها لإرضاء الولايات المتحدة حفظا للعروش والنظم سوف تتراجع، ومشروعات تأسيس شرق أوسط جديد تلعب إسرائيل فيه دورا قياديا سوف تختفى.
هذه مجرد أمثلة لمدى ما يمكن أن يترتب على تراجع الدور الأمريكى.
الدور الصينى مرشح للصعود بعد الجائحة، غير أن الطريق لن يكون معبدا، فالصين ليست فى عجلة من أمرها للتحول إلى قوة عظمى، على ما تؤكد دوما، وتحتاج إلى وقت لإصلاح اختلالات اجتماعية فادحة حيث يعانى بعض مواطنيها من فقر مدقع، ونظامها السياسى يحتاج إلى انفتاح أوسع حتى يكتسب جاذبية الإلهام، الذى تحتاجه أى قوة عظمى فى عالم السماوات المفتوحة.
على جانب آخر فإن هناك حروبا معلنة ومكتومة سوف تجرى ضدها للحيلولة دون أى صعود محتمل لمنصة القوة العظمى الأولى، إدارة «دونالد ترامب» بدأت الحملات عليها بذريعة مسئوليتها عن تفشى الوباء وتضليل العالم ومنافسه الديمقراطى «جو بايدن» يزايد عليه ويتهمه بالتساهل مع الصين، ودول غربية أخرى دخلت على خط الاتهامات.
قد ترجع بعض أسباب الحملة على الصين إلى أخطاء ارتكبتها فى بداية الوباء، أو تعود إلى صراعات انتخابية فى الولايات المتحدة، لكنها فى صلبها تعبير عن صراعات سياسية دولية سوف تأخذ مداها، ولا شىء سوف يمضى يسيرا.
هذا عالم جديد يولد من تحت خرائب «كورونا»، وسوف يأخذ وقته قبل أن تستبين ملامحه وتنعكس حقائقه فى الشرق الأوسط أكثر أقاليم العالم اشتعالا بالأزمات والنيران.
بنظرة على العالم العربى، القوة البشرية الأكبر فى الإقليم، فإنه بحالة انكشاف استراتيجى، قضاياه مستباحة وأمنه القومى منتهك ومنظمته الإقليمية الجامعة العربية مشلولة.
فى حرب «كورونا» غاب «الدفاع الجماعى»، أو الحد الأدنى من التنسيق والإسناد الاقتصادى والطبى للدول الأكثر تضررا، كما غابت من قبل «اتفاقية الدفاع العربى المشترك» أمام أى تحديات ومخاطر نالت من أمنها القومى.
ضرب «كورونا» جميع المنظمات الدولية والإقليمية بالعجز شبه الكلى، لكنه لم تكن هناك مفاجأة فى حالة الجامعة العربية حيث عللها مزمنة وعجزها أمثولة.
تصلح أحوالها أم تعلن وفاتها؟، هذا سؤال سوف يطرح نفسه على جدول أعمال ما بعد «كورونا»، لكنه فى كل الأحوال ليست له الأولوية، فموازين القوى الإقليمية المستجدة سوف تكون لها السطوة بأى حساب مستقبلى.
المجازفة بالتوقع أقرب إلى المشى فوق رمال متحركة، غير أن هناك ثلاث علامات قد تساعد على اكتشاف الصورة التى يمكن أن يصبح عليها الإقليم بعد «كورونا».
العلامة الأولى، أزمات الشرعية التى تشمل دولا كثيرة فى الشرق الأوسط، لخصتها حالة الحراك السياسى بأربع دول عربية، السودان والجزائر ولبنان والعراق، قبل أن توقف فاعلياتها بتأثير الخشية من تفشى الوباء بأى تجمعات، وقفت فى منتصف الطريق، لا حققت أهدافها ولا رفعت راياتها البيضاء.
السودان قد يبدو أفضل حالا نسبيا، حيث أنشئت سلطة انتقالية، لكنها لم تستوف مؤسساتها.
لا أحد بوسعه أن يجزم بانتقال السلطة من العسكريين إلى المدنيين، وما إذا كان سوف يكون حقيقيا أم صوريا.
فى الجزائر تعطل الاستحقاق الدستورى بأثر الإجراءات الاحترازية.
رغم انتخاب رئاسة جديدة فإن الشكوك والريب ما زالت مخيمة على البيئة العامة، ولا أحد بوسعه أن يتوقع مآل الحراك والسلطة والشرعية بعد «كورونا».
فى لبنان جرى توقف آخر بعد أن أنهك البلد بالتوظيف السياسى الزائد للحراك عكس مقاصده، وأفضى الوباء إلى تفاقم المصاعب الاقتصادية فوق طاقة أى تحمل.
وفى العراق جرى التعطيل نفسه لحراك شهد برك دماء مروعة دون أن تصل مطالبه المشروعة لمحطتها الأخيرة، كل شىء معلق على تطورات الحوادث.
العلامة الثانية، قدر الصدامات المسلحة فى الإقليم وما قد تؤشر عليه مستقبلا.
فى اليمن هدنة جزئية دعت إليها السعودية تحت ضغط أزمة «كورونا» المتفشية والحوثيون اعترضوا على طابعها المؤقت وجرت مناوشات.
فى ليبيا تصعيد للمواجهات العسكرية رغم نداءات التهدئة، وشكوك قوية فى دعم عسكرى تركى مكن قوات حكومة «فايز السراج» من تحقيق تقدم مفاجئ فى بعض الجبهات، لم يكن ذلك ممكنا دون ضوء أخضر من قوة عظمى متداخلة فى الملف، أمريكا مرجحة وروسيا غير مستبعدة ــ كما استمعت من شخصية دبلوماسية رفيعة ومطلعة.
فى سوريا تبدت هدنة هشة موقوتة بحسابات وتفاهمات قد لا تصمد بعد أن ينقشع الوباء.
فى البلدان المنكوبة الثلاثة، اليمن وليبيا وسوريا، خفتت حتى الآن أرقام الإصابات والوفيات بـ«كورونا» بسبب العزلة المفروضة عليها، فإذا ما استفحلت موجات الوباء فإنها ستكون فى وضع كارثى.
بقدر أكبر يتعرض الفلسطينيون فى الضفة الغربية وقطاع غزة وخلف الجدار ومخيمات الشتات إلى ضربات مزدوجة من الوباء والتمييز العنصرى الإسرائيلى.
العلامة الثالثة، الصورة التى تبدو عليها أكبر ثلاث كتل تاريخية وسكانية فى الإقليم، مصر وإيران وتركيا.
هناك قوتان أخرتان مؤثرتان على خرائط الإقليم، السعودية بمواردها المالية وإسرائيل بأوزانها العسكرية، غير أنه بحقائق الجغرافيا السياسية فإن الكتل الكبيرة الثلاث هى التى سوف تلعب الأدوار الأبرز فى المشهد الإقليمى المستجد بعد «كورونا».
إيران فى وضع حصار مزدوج تحت ضربات «كورونا» القاسية والعقوبات الاقتصادية الأمريكية المتصاعدة، لكنها طرف رئيسى فى أزمات ومعادلات الإقليم يستحيل حذفه أو التوصل إلى تسويات مرضية فى غيابها.
تركيا فى وضع ارتباك والاتهامات تطارد رئيسها «رجب طيب أردوغان» بالتسبب فى تفاقم الأزمة الصحية وافتعال صدامات مع عمد استنبول وأنقرة وأزمير خشية تصاعد نفوذ المعارضة.
رغم ذلك فإنه يستحيل حذف الدور التركى، أو التقليل من شأنه بأى حسابات مستقبلية.
ومصر تبدو بوضع أفضل قياسا على الفترات الماضية، هناك تحسن فى الأداء العام لا شك فيه، قد لا يكون مثاليا، لكنه اكتسب ثقة قطاع واسع من الجمهور فى أن الأمور يمكن أن تتحسن، مثل هذا الاحتمال يتيح فرصا وسط مخاطر «كورونا» لخفض التوترات السياسية والاجتماعية والانفتاح على أفضل ما فى البلد من مواهب وقدرات بجميع المجالات، كما يتيح فرصا للتحرك فى الإقليم بروح المبادرة، التى تكاد تغيب دون مقتضى.
قضية سد النهضة والتحرك الدبلوماسى لحلحتها قبل أن تصل إلى نقطة الانفجار، إذا ما ملأته إثيوبيا من طرف واحد دون اتفاق مع دولتى المصب مصر والسودان، لها الأولوية بطبيعة الحال.
غير أن إطلاق روح المبادرة على جبهات الإقليم سوف تكون إضافة حقيقية للوزن المصرى فى لحظة حرب مياه غير مستبعدة.
هناك ما يستحق المبادرة مثل نقل الحوار مع إيران إلى العلن الدبلوماسى بحثا عن حلول للأزمات المستعصية فى الإقليم ومصالحات ممكنة مع دول الخليج تساعد فى إنهاء المحنة اليمنية، التى لن تتوقف دون هذه المصالحة.
الخليجيون لا يمانعون فى مثل هذه المصالحة، لهم متطلبات واشتراطات بعضها يمكن قبوله وبعضها الآخر فيها تزيد، الدور المصرى أقرب إلى جسر تفاهم بين طرفين إقليميين انهكهما التنازع الطويل.
عودة سوريا إلى عالمها العربى وفك الحظر عليها قضية أمن قومى تأخر البت فيها، دولة الإمارات أقدمت على هذه الخطوة، ومن واجب مصر أن تدعمها بخطوة مماثلة تغير البيئة العامة فى الإقليم.
فى الظروف الحالية تصعب أى تهدئة مستدامة مع تركيا، لكنه ينبغى التفرقة بين الخلاف السياسى مع «أردوغان» والعلاقة التاريخية مع الشعب التركى بقوته الناعمة ومثقفيه.
الأزمات تولد الفرص كما المخاطر، إذا لم نتحرك الآن بالمبادرة فقد تداهمنا التغييرات المحتملة فى الإقليم بعد انقضاء «كورونا» بما لم نحتسب من أعاصير وزلازل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved