الأوطان والديانات

رجائي عطية
رجائي عطية

آخر تحديث: الأربعاء 22 أبريل 2020 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

يرى العقاد أن الوطنية والدين، لا يعدوان فى نظر الشيوعيين أن يكونا من أحابيل الاستغلال، ولا مصدر لهما غير الوسائل الاقتصادية أو وسائل الإنتاج، وهذا ما تفهمه من البيان المشترك للصاحبين «ماركس» و«انجلز»، والذى يقولان فيما قالاه فيه إن العمال لا وطن لهم، وإنه ليس بمستطاع أن يُؤخذ منهم ما ليس لهم، أما الدين، فرأى الماديين فيه ملخصه الكلمة المشهورة فى مقالة «كارل ماركس» عن هيجل. «إنه نفثة المخلوق المضطهد، وشعوره بالدنيا التى لا قلب لها.. إنه أفيون الشعوب».. ومثلها قوله عنه فى حرب الطبقات فى فرنسا: «إنه الأفيون الذى يخدر الشعب فتسهل سرقته».
هذا هو لباب الفكرة الماركسية عن أصل الوطن والدين، أما دينهم المفهوم فى تعليل جميع العقائد الوطنية أو الدينية ــ أنهم متى وصلوا إلى وسائل الإنتاج أخذوا كل حالة اقتصادية تصادفهم فجعلوها سببًا للعقيدة التى تعاصرها.
* * *
إن دعاة الشيوعية شاهد قوى ــ فيما يقول العقاد ــ على صحة قول القائلين إن ملكة الخيال وملكة الفكاهة ضروريتان للبحث الفكرى كضرورة الفهم والمنطق والدراية. فقد كان «ماركس» و«انجلز» وأتباعهما على فقر شديد فى كلتا الملكتين، ولم يكن لأحدهما نصيب من ملكة الفكاهة ولا من ملكة الخيال.
ولو قد تنبها لأدركا أن حكمة الخالق التى لا تدارى نفسها من أحد يريد أن يبصرها، أقرب من تلك اللغة الطويلة التى يصطنعانها، ولأدركا أن الوطنية ليست بحيلة من حيل الإنتاج لأنها خليفة العنصرية وشبيهتها فى خواطرها وبواطنها، فالعنصرية بدورها ليست من حيلة أحد يقصدها أو لا يقصدها.. فهى علاقة الدم والقرابة التى لا اختيار فيها لخادع أو مخدوع. ولم يكن شعور الوطنية أو العنصرية وقفًا ــ فى أمة من الأمم ــ على طائفة أو طبقة أو صناعة أو هيئة اجتماعية دون أخرى.
* * *
إن الجماعات البشرية لم تخل قط من شعور كشعور الوطنية منذ عهد القبيلة الأولى، وشواهد ذلك عديدة فى التاريخ طفق العقاد يحصيها.
أما الدين فلو كان لـ«كارل ماركس» نصيب من خيال التشبيه لما خطر له أن يشبهه بشىء من المخدرات أو المسكرات، فالأديان جميعًا تقوم على الثواب والعقاب، ولا مجال فى تبعاتها لفكر مخدور أو سكران.
وبعد فهذا فصل عن تفسير الفلسفة المادية للعقائد الدينية لم يرد به العقاد ــ فيما يقول ــ تفسير الأديان ولا الموازنة بينها.. ولكن ليبين قصور تلك الفلسفة عن تفسير نشأة الدين فى المجتمع وفى نفس البشرية، بالقياس إلى الفرائض الاجتماعية العامة كفرائض الشريعة وفرائض العرف والعادة وفرائض الأخلاق والآداب، وأوضح ما يكون القصور فى هذه الفلسفة حيث تعرض لسريرة الإنسان وعوامل الحياة الاجتماعية التى لا تحيط بها كلمة «المال» أو كلمة الإنتاج.
الشيوعية فى الإسلام
ختم العقاد كتابه فى الشيوعية والإنسانية فى شريعة الإسلام ــ ختمه بباب عن الإسلام والشيوعية، ليسجل على «ماركس» و«انجلز» أنهما لا يظهر من كلامهما عن الأديان الكبرى أنهما توسعا فى الاطلاع عليها، ولا يظهر من كلامهما العاجل عن الإسلام والمسلمين أنهما اطّلعا على قواعد الإسلام كما يتفهمها من يتصفح القرآن الكريم والأحاديث النبوية، فضلا عن أقوال الأئمة والحكماء الإسلاميين.
ويرى العقاد أننا مطالبون بإفراد القول عن الإسلام فى مذهب الشيوعيين، لأننا أحق من الكتاب الغرباء ببيانه وبجلاء الشبهات التى يوردها عنه من يجهلونه أو تسوء فى تصويره نواياهم، ولأن دراسة الشيوعية فى آرائها عن الدين خاصة، تستوجب دراسة الدين الإسلامى قبل غيره من الأديان العالمية الكبرى، لأنه يتضمن وحده معظم الشواهد التى تدحض آراء الشيوعيين فى نشأة الدين، ولأن الإسلام نظام اجتماعى إلى جانب عقائده وشعائره الدينية، ولذلك نظر إليه الشيوعيون كمزاحم خطير يخشون منه أن ينازعهم السلطان على عقول الأمم وضمائرها فى مقومات المجتمعات فى مسائل الأخلاق والمعاملات بما لا طاقة للماديين به فى فلسفة الحياة.
ومن حجج الإسلام البالغة، موازنته التى تأبى للمسلم أن ينسى نصيبه من الدنيا، ويأمره بالأخذ من طيباتها، على عكس الزعم بأن الدين يخدر الشعوب.
ولم يخطر لعدو من أعداء الإسلام أن يتهمه بتحسـين الجبـن والاسـتكانة لأتباعه، بل خطر أن يصفوه بالنقيض فيما يزعمون أنه دين سيف وقتال.
وهو زعم باطل، لأن الإسلام كان مبتلى بسيوف أعدائه، قبل أن يذود بالسيف 
عن نفسه، فلم يضع السيف فى غير موضعه إلاَّ دفاعًا إزاء الذين هاجموه وقاوموا دعوته وحاربوه بالسيف. فالإذن بالقتال كان لمن يقاتلون الإسلام والمسلمين، وبلا عدوان أو تجاوز. «وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ»، «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ». ومقاتلة البغى أوجبتها الضرورة فى صد العدوان، ودون إعفاء من إصلاح السيئات، وإيجاب الجنوح إلى السلم مع من فاء وجنح إلى السلم بعد بغيه.
ومن الواجبات الاجتماعية فى الإسلام، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وليس فيه ــ بل العكس ــ ما يمكن تسخيره فى خدمة أصحاب الأموال أو القابضين على وسائل الإنتاج، 
بل وحرّم الربا والاحتكار وكنز الأموال.
ولم يستثن الأغنياء وأصحاب الجاه من الجزاء الذى تفرضه الشريعة، فكان زجر من تَشَفَّعَ ـــ فى الحد ــ للسيدة المخزومية القرشية، ولم يُحْصَ على الإسلام خدمة السادة أو أصحاب العصبيات، فلا كرامة إلاَّ للتقوى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ». ولا عصبية 
ولا تفاخر بالأحساب والأنساب ولا فضل لأحد على سواه إلاَّ بهذه التقوى. ورسول القرآن عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الناس جميعا، والناس جميعًا أبناء أمة واحدة تفرعوا شعوبًا وقبائل ليتعارفوا ولا مفاضلة بينهم إلاَّ بالتقوى والعمل الصالح، فلا فضل لعربى على أعجمى 
ولا لقرشى على حبشى إلاَّ بهذه التقوى. وكل الناس لآدم، وآدم من تراب.
وفى هذا الأدب الإلهى لا مجال للتفاضل بغير الأعمال، وكل نفس بما كسبت رهينة، 
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
وقوام الإسلام يفند كل ما تتوسل إليه الشيوعية لنشر مذهبها، ولم تفلح مكاتيب الشيوعية ولا موسوعة الثقافة الشيوعية فيما أرادوه بوصم الإسلام بالرجعية ومعاونة الاستغلال، أو اعتباره من موانع أو عقبات التقدم، فقد شهدت الحضارة الإسلامية بنقيض هذه الدعاوى التى توسلت فيها الشيوعية بالدعاية الرخيصة، فأخفقت إخفاقًا ذريعًا وتراجعت مزاعمها ــ أمام انتشار الإسلام فى قلب الأوطان التى بدأت فيها الشيوعية حركتها.
* * *
والنظام الاجتماعى الذى جاء به الإسلام لم يصطنع الرق الذى كان سائدًا فى العالم، وإنما قاومه حتى قضى عليه فى النهاية بسياسة مرسومة قلصت أبواب الرق وفتحت أبواب العتق وحضت عليه ــ كذلك لم يجئ هذا النظام الاجتماعى بتعدد الزوجات، فقد كان التعدد موجودًا وشائعًا قبل الإسلام، وشائعًا فى اليهودية التى تعددت فيها زوجات بعض أنبيائها حتى بلغن المئات، فلم يبتدع الإسلام هذا التعدد بل قيده، ثم شرط له العدل وزاد أن أشار إلى أن تحقيقه صعب بل وخارج الاستطاعة مهما كان الحرص على بلوغه.
ومجمل القول أن الإسلام لم ينشئ وإنما عالج تعدد الزوجات كما عالج الرق فى عصر الدعوة، حين وجد حالا سيئة فواجهها بمنظور تغيَّا الإصلاح وسعى إليه.
وأقام الإسلام العدل على أساس المساواة بين الواجبات والحقوق، وعدله فى بيان حقوق المرأة وحقوقها هى على الرجل وحقوق الرجل عليها، فى تقسيم للواجبات والحقوق قائم على تقسيم الفطرة التى تصح بها موازين الأسرة ومعاشها وتربية أبنائها وتنشئة جيل جديد مكتمل المقومات النفسية والتربوية.
ويحصى العقاد على الشيوعية، قول زعيمها «خروتشوف» بعد أربعين سنة من اللغط «بالرجعية» فى الإسلام والزعم بالتقدم فى المذهب المادى ــ فى تقريره للمؤتمر العشرين من مؤتمرات الحزب الشيوعى (فبراير 1956)، والذى أقر فيه بأنه لا يمكن تجاهل الحقيقة الملحوظة فى هيئات كثيرة من هيئات الحزب، وهى الحذر من ترشيح النساء للمراكز الرئيسية، وأن عدد النساء قليل جدًّا بين أصحاب المراكز الموجهة فى الأعمال السوفييتية. ولم يلاحظ هذا الحذر فى مجتمع يدين بالرجعية الإسلامية حسب التوصيف المعطى فى مذهبهم للإسلام.

‏Email:rattia2@hotmail.com
‏www.ragai2009.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved