التعليم فى مواجهة البحث العلمى

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: السبت 22 أبريل 2023 - 7:25 م بتوقيت القاهرة

شهدت سنة 1930 إنشاء معهد البحوث المتقدمة فى جوار جامعة برنستون بولاية نيو جيرسى بأمريكا، كان أول مدير لها هو أبراهام فليكسنر، كانت الغاية من هذا المعهد هو جعله جنة للعلماء، من يلتحق بهذا المعهد لن يحتاج للتدريس ولن يحتاج إلى حضور اجتماعات مجالس أقسام أو أية لجان أخرى، من يلتحق بهذا المعهد غير مطالب بشىء سوى التفكير والبحث العلمى. كان ألبرت أينشتاين من أوائل من تم تعيينهم فى هذا المعهد وأيضا جون فون نويمن عبقرى الرياضيات والحاسبات وكيرت جودل عبقرى علم المنطق. حاول المعهد تعيين عبقرى الفيزياء ريتشارد فاينمان الحائز على جائزة نوبل فى الفيزياء سنة 1965 عن اسهاماته فى ميكانيكا الكم. فاينمان يعتبر من النوادر فى هذا العالم الذين يتميزون بالعبقرية فى البحث العلمى والبراعة الشديدة والموهبة فى التدريس. رفض فاينمان العرض المقدم له للالتحاق بهذا المعهد والسبب هو ما سنتحدث عنه فى مقال اليوم: التدريس والبحث العلمى.

كان رد فاينمان على محاولة إلحاقه بالمعهد أن البحث العلمى قد يفشل أو قد يفقد الباحث قدرته البحثية لكن التدريس سيظل موجودا ومؤثرا. هذه حقيقة يغفل عنها الكثيرون. التدريس هو إحدى المهارات التى تتحسن مع التقدم فى العمر. عندما تقوم بالتدريس فإنك تؤثر على عدد كبير من الطلاب، إذا نبغ أحدهم وقام باكتشافات علمية مهمة فأنت لك يد فى هذا، إذا التدريس هو مشروع لا يفشل بشرط طبعا أن تقوم به على أحسن وجه وقد تكلمنا عن التدريس فى مقالات عديدة سابقة. المشكلة هنا هو النظرة المجتمعية لمهنة التدريس خاصة فى الدول النامية.

إذا قابلت شخصين لا تعرفهما وقدم أولهما نفسه على أنه باحث أو عالم والثانى على أنه مدرس فإنك فى الأغلب ستحمل احتراما وتبجيلا للباحث أكثر من المدرس، السبب فى ذلك أن أغلب الناس يظنون أن المدرس أو الأستاذ هو مجرد شخص قرأ «كلمتين» وأعادهم على الطلبة، ويظن الناس أن هذا أمر سهل. أما الباحث فإنه يسبر أغوار العلم ويقوم بشىء تجهله أنت ونحن دائما ما نشعر بالمهابة لكل ما نجهله. الجميع يعرفون أن أينشتاين عبقرى لكنهم لا يعرفون بالتحديد ما هو اكتشافه ولا أهميته. والغريب أنك لو سألت أى شخص عن مهنة التدريس لاستفاض فى مدح تلك المهنة المقدسة وأهميتها فى تقدم الأمم، لكن من داخله (فى الغالب) سيحترم الباحث أكثر من المدرس. لذلك ستجد الكثيرين فى المجال الأكاديمى يحاولون إظهار أبحاثهم والكلام عنها أكثر من الكلام عن التدريس الذين يقومون به حتى وإن كانوا فى التدريس أكثر براعة بكثير من البحث العلمى، ولكنها غالبا الرغبة فى الظهور بمظهر العالم.

هناك سؤال يطرح نفسه بشدة: الأستاذ الجامعى وقته مقسم بين التدريس والبحث العلمى وبعض المهمات الإدارية، فى حين أن أى باحث فى مراكز الأبحاث وقته كله موجه للبحث العلمى وبعض الوقت للإداريات، فهل معنى ذلك أن الباحث سيحصل بالقطع على نتائج بحثية أفضل من الأستاذ الجامعى؟ أعتقد أن الإجابة لا لعدة أسباب. أولا: التدريس يجعل الباحث يخرج من دائرة البحث الضيقة ويتعامل مع أشخاص أكثر، هذا يجعله يعود للبحث العلمى بانتعاش ويقاوم رتابة العمل الواحد. ثانيا: تدريس علم ما يساعد الأستاذ على معرفة الفجوات فى معلوماته، لأنك إن لم تستطع شرح المعلومة للشخص العادى فهذا معناه أنك لا تفهمها بالعمق الكافى. ثالثا: فى أثناء شرحك للمعلومة قد يخطر ببالك أو قد يسأل أحد الطلاب سؤالا قد يكون بداية الخيط لبحث جديد أو خطوة للأمام فى بحث تعمل فيه بالفعل، مثلا عندما يقوم كاتب هذه السطور بتدريس مادة معينة فى التخصص فإنى أضع أسئلة بحثية صغيرة فى المنهج كمشاريع صغيرة للطلاب، وبالفعل هناك أبحاث منشورة قام بها هؤلاء الطلاب أثناء دراستهم للمادة وهذا مثال جيد للتكامل بين البحث العلمى والتدريس.
التكامل أفضل من التنافر، وللأسف نجد هذا التنافر فى عمل الكثير من أساتذة الجامعات حتى فى الدول المتقدمة. هؤلاء الأساتذة يضعون كل جهدهم فى البحث العلمى وأقل المجهود فى التدريس، أولا من باب أن البحث العلمى مقدر أكثر، وثانيا لأن الترقيات فى أغلب الجامعات تقوم فى الجانب الأعم منها على البحث العلمى وليس التدريس، وثالثا أن الكثير من الأساتذة لم يدرسوا أو يطوروا خبرتهم فى التدريس عن طريق قراءات خارجية عن طرق التعليم الحديثة وما شابه.

البحث العلمى والتدريس يكملان بعضهما البعض والمدرس ليس بأقل من الباحث.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved