بعض المعرفة يُطهر المجتمعات

سامح فوزي
سامح فوزي

آخر تحديث: الجمعة 22 مايو 2009 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

 هناك من يرى أن المجتمع المصرى يمر بحالة تردٍّ على الصعيد الاجتماعى، سنده فى ذلك ما تنشره صفحات الحوادث من نوعية جرائم لم تكن شائعة أو متعارفا عليها. والسؤال: هل المجتمع تدهور بالفعل؟ أم أن التدهور الذى يدب فيه منذ سنوات صار معروفا ومعلوما أكثر من ذى قبل؟..... هل الصدمة من هول ما يجرى؟ أم أن الصدمة نتيجة معرفة ما يجرى؟ أظن أن المشكلة تعود إلى «المعرفة» أكثر مما تعود إلى «الحالة» الاجتماعية ذاتها. يكفى القول بأن عيادات الطب النفسى، ومحاضر أقسام الشرطة، والبحوث الاجتماعية الميدانية، وبعض الأعمال الروائية ترصد منذ فترة طويلة مظاهر التهتك فى النسيج المصرى، ويسمع المرء من أهل الاختصاص قصصا مفزعة، ومقلقة، ويستغرب متسائلا هل يحدث ذلك فى مصر؟

(1)
لا أحد ينكر أن هناك بالفعل نوعية من الجرائم لم يكن أحد يتصور حدوثها فى المجتمع المصرى. منذ بضعة عقود وجد جيمس كولمن عالم الاجتماع الأمريكى فى تجربة «حى خان الخليلى» نموذجا لما سماه، وشاعت التسمية من بعده، «رأس المال الاجتماعى». فقد اكتشف أن التجار فى الحى يعتمدون فى المعاملات بينهم على «وعد الكلمة»، لا أحد يكسر كلمته، ولا أحد يخون زميله. وعادة ما يكون «النبذ الاجتماعى» هو جزاء رادع لخيانة الأمانة. لم يجد كولمن نموذجا أفضل من هذا فى شرح وتحليل الروابط التى تنشأ بين الأفراد على أساس من الثقة والاحترام المتبادل. لا أعرف على وجه اليقين هل لو زار جيمس كولمن مرة أخرى حى خان الخليلى أو تجول فى مكان آخر سيظل على رأيه أم لا. ما أعرفه جيدا أن معدلات الثقة انخفضت فى المجتمع المصرى انخفاضا ملحوظا، ليس اليوم، ولكن منذ فترة. ومع تحور الجرائم فى الشكل والمضمون، بات الناس أكثر تحسبا من الواقع المحيط بهم. علامة ذلك ــ كما يقول علماء الاجتماع ــ الإجابة عن سؤال محورى: هل يشعر الأهل بالثقة إذا تركوا أطفالهم يلعبون فى الشارع وحدهم، ويختلطون بأقرانهم من الجيران؟

منذ أسبوعين فى نهاية الصلاة بالكنيسة فوجئت بالقس يحذر جمهور المصلين من عدم ترك أطفالهم بعيدا عنهم لأن هناك من يخطف الأطفال. أصاب زوجتى بعض القلق، خصوصا على طفلينا، فابتسمت وقلت لها: لا تصدقى، قد يكون فى الأمر تهويل ليس فى محله. وفى اليوم نفسه سمعت أن دعوات مماثلة ترددت فى كنائس أخرى. ظننت فى البداية أنها مخاوف خاصة بالأقباط، فهم أكثر حساسية، وسبق أن حذروا أنفسهم من محال تجارية تقوم بالتغرير بالفتيات والنساء منذ بضعة سنوات ثم ثبت عدم صحة ذلك. ولكنى علمت لاحقا أن فى اليوم السابق خصص إمام مسجد السيدة زينب خطبة الجمعة للتحذير من عصابات خطف الأطفال، وسرت شائعات، وروايات، وحكايات، وقصص فى أوساط العامة حول هذه القضية عرفت طريقها إلى الصحف. وتحول الأمر إلى لغز، هل هناك عصابات تخطف الأطفال بالفعل؟ بصرف النظر عن الإجابة، التى نتمنى أن تكون بالنفى، فإن هناك شرخا ما أصاب جدار الثقة فى المجتمع، وجعل الناس هلوعين لأقل الأشياء، وأكثر استجابة لمشاعر عدم الثقة، وكما يقال دائما لا يوجد دخان بدون نار.

(2)
لا يعنى ذلك أن كل الجرائم فى المجتمع المصرى مستحدثة. كثير منها قديم، ومعروف، لكنه لم يكن يجد طريقه للظهور، نظرا لأن الثقافة الغالبة هى «ثقافة العار»، أى التعتيم على الأخطاء بدلا من مواجهتها بشجاعة. نفى الخطأ لم يؤد إلى غيابه، بل إلى طرده بعيدا عن ساحة التداول العام.

هناك عدة جرائم تلاحقت فى غضون أيام معدودات. زوج خادمة يقتل مديرة الائتمان ببنك مصر بحثا عن بضع مئات من الجنيهات. شاب يقتل طفلين، هما ابنى خاله، طعنا بسكين، يقول فى التحقيقات أنه لا يتذكر عدد الطعنات التى سجلها فى جسدى الطفلين. سيدة تتخلص من وليدها البالغ من العمر ستة أشهر لرفض والده الاعتراف به. ومجرم محترف عذب زوجته، ثم مزق جسدها. تشير تقارير صحفية إلى أن البعض لجأ ــ بدافع الخوف ــ إلى تشديد الحراسة على منازلهم، سواء بالتعاقد مع شركات حراسة خاصة، أو من خلال شراء مستلزمات حماية أوفر من أبواب، وكوالين، وكلاب مدربة. الناس تتصرف بفطرتها، ولكن الجريمة فى المجتمع المصرى فى حالة تحور، وتبدل، تماما مثل فيروس إنفلونزا الخنازير. هل القتل صار سهلا إلى هذا الحد؟

من يطالع صفحة الحوادث فى السنوات الأخيرة يلحظ كثافة فى الجرائم. فى عام 1992، عندما وقعت حادثة «فتاة العتبة»، التى لم تكن اغتصابا بالمعنى الحرفى، بل كانت فى الواقع «هتك عرض»، ثارت الدنيا. أتذكر نقاشا عنيفا فى مجلس الشعب، وقف أيامها عبدالحليم موسى، وزير الداخلية، يفسر ويحلل ويبرر ويتوعد بمزيد من الإجراءات الأمنية. فى تقديرى أن الرجل كان يهدئ مشاعر غاضبة وقتئذ ولاسيما أن الحادثة وقعت فى شهر رمضان، لأنه كان يعرف أن المشكلة موجودة فى المجتمع، وعلاجها الباتر ليس عنده. ظل الموضوع مشتعلا لفترة، والكل يبكى حال المجتمع الذى تدهور إلى هذا الحد. ومنذ ذلك الحين تنشر صفحات الحوادث أحداثا متلاحقة عن اغتصاب الفتيات والنساء، وجرائم التحرش الجنسى دون أن تستفز أحدا، وعلى مساحات عادية بما يعطيها صفة الاعتياد أكثر من حالة الاستثناء. وعلى الرغم من تشديد العقوبة على المغتصبين إلى حد الإعدام، والحكم بالسجن على المتحرشين جنسيا، فإن حوادث الاغتصاب والتحرش مستمرة. هل فقد المجتمع نخوته، وأصابه نوع من التبلد الاجتماعى، بحيث بات أكثر امتصاصا وتقبلا لنوعية من الجرائم التى يكفى إحداها لهز أركان دولة أوروبية إذا وقعت فيها؟

(3)
الإجابة بالنفى. المجتمع كما هو، تغير فى الدرجة وليس فى النوع كما يقول علماء المنطق. هذه النوعية من الجرائم حدثت وتحدث فى المجتمع المصرى، ومجتمعات أخرى مشابهة منذ سنوات بعيدة دون أن يكون مسموحا بتناولها على الملأ إلا فى أضيق الحدود. فعلى سبيل المثال ختان الإناث يُمارس منذ عقود بعيدة. لم نكن نتحدث عنه، هل معنى ذلك أنه لم يكن موجودا؟ بالطبع لا. هذه الممارسة كانت قائمة، وضحاياها كثيرين، ولكن عندما تصدى الإعلام لها، وظهر علماء دين اتسموا بشجاعة تحريمها، والموافقة على تجريمها، طفت على سطح المجتمع الساخن.

هناك أمثلة كثيرة على ذلك. ما كنا نسعى لإخفائه بدافع من ثقافة «العار» صار ملء السمع والبصر، لا يمكن طمسه أو تغيير معالمه. هذا هو الجديد الذى يشعرنا أن المجتمع يتغير حولنا. نعم يتغير حولنا، لكنه تغير فى «الدرجة» أى فى مستوى التدهور، وليس فى «النوع» أى نوعية التدهور ذاته. هذا هو الملمح الإيجابى فيما يجرى، والذى يظن كثيرون أنه ملمح سلبى. كلما انفتح المجتمع، وعرى مشكلاته، مهما بلغت قسوتها، كانت فرص المجتمع فى استرداد عافيته أوفر. وما يفعله الإعلام سوى أنه يقدم حالة مجتمع ينفتح، يُظهر عوراته، ويوضح حجم مأساته. قد يكون ذلك مصطدما، لكنه فى النهاية أفضل اقتراب للاشتباك مع الأمراض الاجتماعية، بدلا من تجاهلها برومانسية تافهة. هناك بالطبع ملاحظات نقدية على أداء أجهزة الأمن، ورغم ذلك فإن الحل ليس فى وزارة الداخلية، ولكن فى إعادة التماسك إلى نسيج المجتمع الذى يعانى من تهتك. هل يمكن أن نتصور أسرة مكونة من سبعة أفراد تعيش فى غرفة واحدة بعيدة عن مظاهر الانحراف الأخلاقى والسلوكى؟ ثقافة الغرف الضيقة هى الحاكمة، من المخدرات إلى الدعارة، والتواطؤ الاجتماعى هو سيد الموقف. الحل أن نتوقف عن ممارسة التأفف، ونلجأ إلى النقد الاجتماعى الجاد. هكذا تتطهر المجتمعات، وهكذا تسترد عافيتها الاجتماعية والأخلاقية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved