حان الوقت لفتح قنوات جديدة مع الاتحاد الأوروبي

ماجدة شاهين
ماجدة شاهين

آخر تحديث: الجمعة 22 مايو 2020 - 6:05 م بتوقيت القاهرة

إلحاقاً لمقالنا الأسبوع الماضي عن "اتفاقيات التجارة الحرة: ما لها وما عليها"، ارتأيت اليوم تناول موضوع يهم مصر بدرجة كبيرة، لا سيما في إطار مرحلة إعادة البناء والتأهيل لما بعد جائحة الكورونا، وهو كيفية تعزير تعاوننا والارتقاء مرة أخرى بعلاقاتنا مع الاتحاد الأوروبي، التي وصلت للأسف إلى حالة تراخي وركود مفزع، في حين أنه كانت تربطنا بالاتحاد الأوروبي ومنذ أكثر من خمسين عاماً علاقات تجارية تفضيلية وثيقة. وترجع علاقات التعاون التجاري بين مصر والاتحاد الأوروبي إلى أوائل السبعينيات من القرن الماضي، حين منح الاتحاد معاملة تفضيلية للصادرات المصرية بموجب نظام الأفضليات المعمم، انتقلت بعده العلاقة إلى إطار تعاوني أكثر ترابطاً متمثلاً في اتفاقية التعاون في عام 1977، حيث حصلت مصر بموجبها على مساعدات مالية ضخمة تجاوزت 30٪ من إجمالي مساعدات الاتحاد الأوروبي لدول البحر المتوسط، والتي بلغت مئات الملايين من العملات الأوروبية. ثم تفاوضت مصر والاتحاد الأوروبي على اتفاقية المشاركة، التي قامت بموجبها بإنشاء منطقة تجارة حرة على مدى 12 عامًا انتهت في أوائل 2019 بالسماح لدخول السيارات أوروبية الصنع دون جمارك إلى مصر. ولم يتراجع الاتحاد الأوروبي مرة أخرى عن تقديم المنح والقروض الميّسرة لمصر لتحديث قطاع الصناعة ورفع مستوى صادراته وإعداده للمنافسة الدولية.

وأرى اليوم أن الوقت قد حان للدخول في مفاوضات مجددة مع الاتحاد لتعميق علاقاتنا والتوصل إلى اتفاقية تجارة حرة أكثر شمولاً وعمقاً تتناول إلى جانب التحرير السلعي موضوعات "الجيل الثاني" لاتفاقيات التجارة الحرة وهي التجارة في الخدمات، بما في ذلك الاتصالات والتحول الرقمي ودعم وتيسير الاستثمار وسياسات المنافسة والتنمية المستديمة، وذلك على الرغم من ارتفاع أصوات المعارضين والمتخوفين من مثل هذه الخطوة. وقد تكون بعض اعتراضات هؤلاء مبررة، لما يزعمونه من أن مصر خسرت الكثير جراء اتفاق المشاركة، حيث قامت بفتح سوقها للصادرات الأوروبية دون اختراق الأسواق الأوروبية بالقدر الذي كانت تأمله، الأمر الذي أدى إلى عجز مزمن في ميزانها التجاري مع الاتحاد وصل إلى 5 مليار يورو في عام 2019.

وهذا ما يجعل الكثيرين في مصر يتشككون من جدوى التفاوض على اتفاقية جديدة تفرض علينا التزامات إضافية. بيْد أن العجز التجاري، الذي تضاءل في الأعوام الأخيرة لنجاح مصر في مضاعفة صادراتها، ليس بغريب، لأن صادراتنا إلى الاتحاد الأوروبي يغلب عليها الصادرات الزراعية والنفط والغاز، بينما نستورد من الاتحاد الأوروبي المدخلات الصناعية والآلات والمستحضرات الطبية والسيارات وقطع غيار السيارات، وما إلى ذلك. أضف أنه في غياب اتفاقية المشاركة لما كانت صادراتنا الزراعية استطاعت اختراق الأسواق الأوروبية أساساً.

ومن المؤسف أن نشهد أن هؤلاء المهتمين بالتجارة في مصر مازالوا ينظرون إلى اتفاقيات التجارة الحرة نظرة ضيقة وعقيمة، على اعتبار أنها تُفقد مصر موارد مالية تؤول لخزانة الدولة. وقد قمنا بتفنيد هذه الحجة في مقالنا السابق ولا مجال من تناول هذا الرأي مجدداً هنا لما تستهدفه اتفاقيات الجيل الثاني من زيادة في الاستثمارات وتطوير التجارة في الخدمات التي تمثل الأساس لتيسير وتحفيز التصدير.

فاتفاقية التجارة الحرة الأوروبية الأكثر عمقاً وشمولاً تستحق بالتأكيد ما قد تتحمله مصر من زيادة في التزاماتها لأنه نظير ذلك ستجني ثمار جهودها في تطوير وتحديث قطاع الخدمات وتعزيز صادراتها السلعية والخدمية على حد سواء، وحتماً إلى الدول الأفريقية في إطار اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية. كما أنه لزاماً على مصر، حكومة وقطاع خاص، اغتنام فرصة التفاوض مع الاتحاد للحصول على الدعم الفني والمالي لتطوير الاقتصاد الرقمي في جميع القطاعات والمجالات، خاصة في مجال التجارة الرقمية وتطوير النظم القواعدية بالنسبة لحماية المستهلك والأمن السيبراني وحماية البيانات الخاصة، وذلك كله من الموضوعات الجديدة التي تهم مصر والتي أكدت جائحة الكورونا على أنه لا مناص من التعجيل في تطويرها. وكذا تعزيز وتيسير الاستثمارات الأوروبية وإيجاد التوازن بين الاندماج في سلاسل التوريد الأوروبية ودعم سلاسل الإنتاج الوطنية.
***
وعلى الرغم من أن مصر في وضع أفضل نسبيًا من غيرها، فإن الطريق ما زال طويلاً وشاقاً أمامها. ويمثل التعاون الأكثر إحكامًا مع الاتحاد الأوروبي مسلكاً هاماً لمصر للتقدم في هذه المجالات، لا سيما في القطاعات الخدمية المختلفة. كما أن التفاوض حول اتفاقية يمثل المسار الطبيعي لعلاقات شريكين تجاريين يرغبان في الارتقاء بعلاقاتهما إلى مستوى أعلى بعد مرور أكثر من 15 عامًا على تفاوضهما على اتفاقية المشاركة، التي عفا عليها الزمن في الواقع إزاء التطورات الهائلة التي طرأت على اتفاقيات التجارة الحرة والتي يتعين على مصر مواكبتها.
ومن ثم، فإذا ما جزمنا بضرورة إيجاد إطار جديد للتعاون مع الاتحاد الأوروبي، فالسؤال الذي يلي، هو ما إذا كانت مصر مستعدة لمثل هذا الاتفاق الأكثر عمقاً والأوسع نطاقاً، بما يعني توقيع التزامات إضافية على مصر ولكن مقابل حصولها على مزايا مستجدة أيضاً. والإجابة على هذا السؤال يكون بالإيجاب مرة أخرى، لأن مصر نجحت في برنامج الإصلاح مع صندوق النقد، بما يعتبره الأخير من أنجح القروض التي نفذها، وهو ما يعزز مكانة مصر ويساهم في إحداث نقلة نوعية لاقتصادها. وعلى الرغم من الآثار السلبية لجائحة الكورونا، فإن نجاح مصر في الحصول على قرض عاجل بمبلغ قدره 2,772 مليار دولار من نافذة التمويل السريع من الصندوق سيساعد على تأهيل مصر لفترة ما بعد جائحة الكورونا والنهوض من جديد باقتصادها. فانتعاش الاقتصاد المصري في فترة ما بعد الأزمة سيقوم حتماً على أكتاف التبادل التجاري في ضوء تعاظم احتمال تراجع إيرادات الحكومة من قطاع السياحة وتحويلات المصريين من الخارج وربما أيضاً انخفاض نسبي لعائدات قناة السويس.
فالتجارة وزيادة تنافسية صادراتنا من السلع والخدمات وجذب الاستثمارات، سيكون لها الأولوية المطلقة في إنعاش الاقتصاد القومي، وكلها موضوعات تدخل ضمن إطار التعاون الجديد مع الاتحاد الأوروبي. كما أن تحديث المؤسسات من خلال المرحلة الثانية للإصلاحات مع الصندوق والعمل على إزالة ما يُعرف بالعوائق "وراء الحدود" في التجارة متمثلة في إجراءات التسجيل المسهبة وتعدد التوقيعات المطلوبة، وكذا تحديث الإطار التنظيمي وتطبيق نظام النافذة الواحدة والإقلال من الحواجز الإدارية والعوائق الفنية للتجارة مثل متطلبات التغليف والعلامات، كل هذه العوائق سيتم بحثها في إطار المرحلة الثانية للإصلاحات مع الصندوق وتمثل ركيزة أساسية لاتفاقية التجارة الحرة الأوروبية الجديدة وجني ثمارها. وعليه، فإن على مصر المضي قدماً وبالتوازي في هذه الإصلاحات مع الصندوق والاتحاد الأوروبي، بما يدعم كل منهما الآخر ويحقق لمصر أقصى استفادة ممكنة من الإصلاحات الاقتصادية المتبقية.
***
ومن هنا لزاماً علينا، التأكيد أنه يقع على عاتق مصر استكمال النجاحات التي حققتها حتى الآن من حيث استقرار مؤشرات الاقتصاد الكلي والاحتفاظ باحتياطيها من النقد الأجنبي وخفض معدلات التضخم بمفاوضات جديدة مع الاتحاد الأوروبي، أقوى شريك تجاري لمصر، لوضع إطار جديد وقواعد جديدة لتكثيف التعاون وتعزيز التجارة مع دوله. ومن جانبه فإن الاتحاد الأوروبي حريص كل الحرص على الدخول مع مصر في مثل هذه المفاوضات، إدراكاً منه بقوة مصر كقوة استقرار في المنطقة ودورها في مكافحة الهجرة غير الشرعية وحربها ضد الإرهاب. كما يعترف الاتحاد الأوروبي بتأثير مصر في إفريقيا، وهو حريص أيضاً على تعزيز علاقاته القوية مع مصر التي تعد أساسية لاستقرار حوض منطقة البحر الأبيض المتوسط ككل.
إن أي التزامات إضافية ستبدو تافهة مقابل الإنجازات التي قد تحققها مصر وتطوير الاقتصاد الرقمي بها. فالتفاوض على اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي يجب أن ينظر له ككل لا يتجزأ ولم يعد ترفا بل ضرورة تحتمها تطور الأوضاع الدولية والإقليمية، بما يضفي مزيداً من الثقة لمصر في معاملاتها التجارية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved