راديو الحارة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 22 مايو 2021 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

فى خضم متابعة أحداث فلسطين الأخيرة كان تعرفى على راديو الحارة الذى نشأ فجأة فى مارس من العام الماضى، دون سابق تخطيط من مؤسسيه: ثلاثة أصدقاء ثم صاروا خمسة، لم يعملوا بالصحافة من قبل، لكن فى مجالات متنوعة مثل التصميم والهندسة المعمارية والإدارة الثقافية، وهم يزن الخليلى، الإخوة إلياس ويوسف أنسطاس، مثنى حسين وسعيد أبو جابر. يحبون الموسيقى ويهوون التسجيلات ويجلسون فى منازلهم برام الله وبيت لحم وعَمان ليبثوا عبر الإنترنت ما شاءوا من فقرات وأغنيات. ويساهم معهم الجمهور فى خلق وإنتاج برامج تهتم بالحياة اليومية من الطبخ وأصول الأكلات إلى الاستعمار والسياسة والشأن العام، بما أن الوضع الفلسطينى يفرض نفسه بالضرورة على واقعهم. ومن هنا كان شعار الراديو «بث مباشر من غرفة النوم لغرفة القعدة وبالعكس»، من الأونلاين إلى الأونلاين.
على غرار راديو الحى فى لبنان الذى أنشأه قبلهم بقليل مجد شهابى ومجموعة أصدقاء له من حى زقاق البلاط ببيروت وآخرون خارج البلاد، جاءت الفكرة فى سياق الحجر الصحى والقلق والرغبة فى فك الحظر والتواصل من خلال منصة تشاركية للاستماع، وصارت ممكنة بفضل خدمة «راديو جار» (Radiojar) بتكلفة 20 دولارا فى الشهر. استلهموا هذا النموذج من راديو كوارتيرى بميلانو الإيطالية الذى بدأ البث مع بداية الحجر هناك، ثم عرضت مجموعة لبنان المساعدة التقنية على من يريد إعادة التجربة، كل على ذوقه، فى أماكن أخرى من العالم العربى من خلال النطاق الخاص بهم (yamakan.place)، ما أسفر عن ظهور ست مشروعات مماثلة: راديو الحومة من تونس، راديو الحارة من فلسطين، راديو قديمك نديمك من دير عطية بسوريا، راديو الحمام من برلين، راديو مزاجى من كوكب الديجيتال (الدوحة)، راديو الشمس من عَمان. جميعها مشروعات تشاركية ولدت من قلب الملل، وتعكس الرغبة فى خلق طقس استماع جمعى، ربما من باب التمرد على الفردية الشديدة التى عززتها التكنولوجيا الحديثة والإحساس بالوحدة الذى خلفته أجواء الكورونا.
***
نجح هؤلاء الشباب فى خلق مساحة بديلة، فضاء عام يتحدى الإغلاق، يتشارك الناس فيه الأفكار والموسيقى. يطلبون من المستمعين المساهمة بمجرد نقر رابط وحجز فقرة أو ملء استمارة وتقديم ترشيحات، كما تخصص هذه المحطات مساحة للسرد وقراءة الكتب وتبادل الحكايات الشخصية. تبرز أحيانا الأيديولوجية التى يتبناها أعضاء الفريق المؤسس كما هو الحال مثلا بالنسبة لراديو الحمام الذى يظهر ميلا نسويا واضحا وموقفا ضد الرأسمالية والأبوية، فهو امتداد لمبادرة «حمام توكس» التى قام بها طاقم مقهى «بيكش» فى برلين، وجاء الاسم من وحى ما تشكله الحمامات الشعبية فى الثقافات العربية والفارسية والتركية، مساحات للاختلاء وتعرية الحقيقة والنميمة والقصص. وأوقات يكون التركيز على المواد التراثية التى قد تكون مغمورة لكنها تعرف المستمعين على بعض أكثر مثلما يفعل فريق راديو قديمك نديمك الذى يهتم بالأساس بضيعة دير عطية والقلمون ومناطق سورية بعينها.
بحكم الأحداث كان راديو الحارة هو الأكثر انتشارا فى الآونة الأخيرة، بسبب رغبة الكثيرين فى التعرف على نبض الشارع الفلسطينى من خلال المواد والتجارب الصوتية التى يبثها، فمؤسسوه يرددون دائما أن الصوت هو الموضوع والوسيط والأداة، هروبا من كثافة الصورة على كل المنصات والتى تزايدت أيام الحجر، هذا بالإضافة إلى أن الناس يصبحون أكثر شجاعة حين لا تظهر صورتهم، يتكلمون على راحتهم، وهو ما يسعى إليه فريق العمل الذى يؤكد فى مواقف مختلفة على فكرة أن «الحارة مش زقاق ضيق بتحوطها جدران البيوت، الحارة براح للجسم والروح، فى الحارة ح تلاقى الونس والحب، ح تلاقى قعدة دردشة بين صحاب عن عم جاهين والأبنودى ونجم ودموع مع صوت مكتوم لقصيدة من قصايد درويش مع لمسة شجن حيران».
تتقاطع الموسيقى بأشكالها مع برامج تناقش مفهوم الصوت والممارسات الصوتية من موسيقى تجريبية إلى مقابلات مع موسيقيين وفنانين، إلى برامج عن الحكايات الشعبية. تنضم إليهم الدى جى سارة إيفانز الأربعاء الثانى من كل شهر، وتتحدث اقتصادية فلسطينية عن تبعات الكورونا ويروى آخرون خاصة من خلال «الشات» كيف يعيشون ساعة التحرير بالشيخ جراح والإضراب العام إلى ما غير ذلك، فالراديو هو وسيلة تصحب الأشخاص أينما كانوا وهذا لايزال نقطة قوتها خاصة فى أماكن الصراع.
***
فى يوليو 2020 استضاف راديو الحارة بثا احتجاجيا مدته 72 ساعة ليندد بخطة إسرائيل التى تهدف إلى ضم 30% من الضفة الغربية، منتهزة فرصة انشغال العالم بالكورونا وبحركة Black lives matter، وكان برنامج «فى المشمش» والذى قابله بالإنجليزية عبارة «عندما تطير الخنازير»، وحقق نجاحا مدويا لأنه كالعادة اهتم بالقصة الخاصة وتقاطعها مع القصة الأكبر.
فكرة تكوين جبهة لتحرير الصوت أو إعطاء صوت لمن لا صوت له كانت دائما وراء نجاح هذه النوعية من الإذاعات التى عُرفت وتطورت تحت مسميات مختلفة على مر السنوات، ففى البداية كانت تدعى «الراديو الحر» فى السبعينيات والثمانينيات، ثم صار يطلق عليها الإذاعات المجتمعية أو التشاركية، ومن بعدها كان راديو الإنترنت أو الأونلاين، والمبدأ واحد تقريبا وهو إيجاد شكل بديل عن الإعلام التجارى وإعلام الخدمة العامة أو الرسمى فى بلدان أخرى، إلا أن التقنيات الحديثة سهلت المهمة بشكل كبير، ففى سائر أنحاء العالم خلال أزمة الكورونا شهدنا صعودا لهذه الظاهرة... شباب يتواصلون مع المستمعين دون تجهيزات معقدة، فهم يستخدمون فى البث الأدوات التى يحتاجونها فى حياتهم اليومية، دون كثير من الفذلكة أو الخبرة. يحدث ما يحدث بشكل عفوى، وبالتالى هم لا يعرفون بالضرورة مصير مشروعاتهم تلك، لكن يأملون فى أن تحظى بصدى طالما مطلوبة وتلبى احتياجا. وبالطبع سيكون للأحداث الأخيرة فى فلسطين تأثير على راديو الحارة، والأيام سيكون لها القول الفصل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved