الأمر بيدهـم

تميم البرغوثى
تميم البرغوثى

آخر تحديث: الثلاثاء 22 يونيو 2010 - 10:16 ص بتوقيت القاهرة

قد يتكون انطباع عند قارئ تاريخها الحديث أن مصر لا تثور. وأنا أزعم أنها لا تثور إلا بشرطين نادرا ما يتوفران، هما انشقاق النخبة الحاكمة على نفسها أولا، ثم استناد المنشقين إلى عموم الناس ثانيا. وأزعم أيضا أن هذين الشرطين ربما يتوفران فى زماننا هذا، وأن إمكانية التغيير قائمة لو صمم عليها أصحابها، وأن أمر مصر بيدهم.

نعم، لم تقم فى مصر ثورة من مائتى عام بقيادة الحكام أو بعضهم، أعنى إذا انشقت الطبقة الحاكمة على نفسها واستمد المنشقون عموم الناس على الموالين. فثورة على بك الكبير كانت ثورة المماليك على العثمانيين، والأولون كانت لهم إدارة البلاد، والآخرون لهم السيادة عليها، وثورة القاهرة الأولى على نابليون قادها شيوخ الأزهر.

وكان نابليون قد حاول إقناع أهل مصر بأنه أسلم وتسمى بالشيخ بونابرطة، ووعدهم ببناء مسجد كبير، وشكل منهم حكومة محلية اسماها بالديوان، معظم أعضائها شيوخ بالأزهر.

وكان الشيوخ آخر ما ظل من النخبة الحاكمة أيام العثمانيين، إذ إن الوالى التركى كان قد فر، والفرق العسكرية المملوكية كانت قد هزمت وتفرقت، فلم يبق إلا المعممون من شيوخ الأزهر يقضون بين الناس. فلما كون نابليون منهم ديوانه، نشبت بينهم وبين أقرانهم من الشيوخ الذين لم يكونوا أعضاء فيه خلافات، ولم يرض بعضهم أن يخدم الغزاة، وثارت القاهرة بقيادة الشيوخ على الشيوخ، ويورد الجبرتى مما جرى على الشيخ البكرى والشرقاوى والسادات ما يعرفه الناس.

أما ثورة القاهرة الثانية، فقادها جباة الضرائب العثمانيون، وهم أمراء كان الباب العالى قد أرسلهم إلى مصر لتسلمها من الفرنسيين. فبعد فشل حملة نابيلون على الشام وعودته إلى فرنسا وإيكاله أمر الحملة فى مصر إلى كليبر، قرر الأخير إعادة البلاد إلى العثمانيين والرحيل، واتفق معهم على ذلك فأرسلوا موظفين لتسلم إدارة البلد، إلا أنهم كانوا قد بيتوا مع بريطانيا هجوما مشتركا على الفرنسيين حين ينسحبون، فلما علم كليبر بما ائتمر عليه الأتراك والإنجليز رفض تسليم المدينة فثارت عليه بقيادة الأمراء العثمانيين الذين جاءوا لتسلمها، واستمد العثمانيون أهل البلد من المشايخ إلى الحرافيش ليحاربوا بهم الفرنسيين.

وثورة عام ألف وثمانمائة وخمسة، عندما اختار أهل مصر محمد على باشا «واليا علينا بشروطنا» وحاصروا القلعة مطالبين بعزل الوالى العثمانى آنذاك خورشيد باشا، إنما كانوا يختارون قائدا عثمانيا على قائد عثمانى آخر. ومحمد على الضابط المنشق على وال عثمانى كان مفترضا فيه أن يخدمه، استمد الشيوخ والتجار والأعيان وبقية أهل البلد عليه.


أما الثورة العرابية فقادها الجيش، وهو كما تعلم ذراع من أذرع نظام الحكم، قادته من النخبة وأفراده من العامة، فاستمد الضباط جنودهم، وعموم المدنيين على الخديو. ولم تتبلور حركة عرابى إلا وقد أصبح وزيرا للحربية وصديقه محمود سامى البارودى رئيسا للوزراء.

أما ثورة عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر فهى الثورة الأكثر شعبية عند المؤرخين المصريين، وأقصد بالشعبية المعنيين، معنى أنها كانت ثورة قام بها الشعب، ومعنى أنها ثورة أثيرة عند المؤرخين بصفتها مثلا أعلى للثورات المصرية يكثرون من ذكرها ما استطاعوا.

إلا أنك لو نظرت إليها قليلا لوجدتها ثورة قادتها حكومة عصرها، قادها رئيس الجمعية التشريعية، والوزير السابق، سعد زغلول، وسانده فيها الوزير عدلى يكن ورئيس الوزراء حسين رشدى، بل ولم يعارضهم السلطان فؤاد ذاته. وأخيرا ثورة ألف وتسعمائة واثنين وخمسين، قادها الجيش، وأفاق الناس ليعلموا أن رئيس نادى الضباط قد أجبر الملك على التنازل عن العرش لابنه.

إذا قارن المرء بين بنية التحركات الشعبية لتغيير نظم الحكم فى مصر وبين نظيراتها فى المشرق العربى لوجد اختلافا ظاهرا، فثورة العشرين فى العراق، وثورة الخامس والعشرين فى سوريا وحركة «الجهادية» فى فلسطين بين عامى اثنين وعشرين وخمسة وثلاثين، ثم ثورة عام ستة وثلاثين كانت كلها حركات شعبية مسلحة منطلقة من مناطق البدو أو جبال الريف، ولم تكن لها قيادة حضرية منتمية للبيروقراطية الحاكمة فى بلدانها.

إن السبب فى ذلك، والله أعلم، يكمن فى صفة تنفرد بها مصر دون جاراتها، هى امتياز لها وعبء عليها معا. إن الشعب المصرى شعب واحد، لا توجد فيه تقسيمات عرقية ودينية وقبلية تسمح بوجود هويات مستقلة ينتظم حولها الناس سياسيا وعسكريا.

فلا توجد فى مصر قبائل كبرى ينتمى إليها الناس دون الدولة، أو مذاهب وطوائف متعددة. وإن وُجدت أقلية دينية هنا، أو جماعة من البدو هناك، فإن أعدادهم لا تكاد تقوم للأغلبية الساحقة من الناس غير المنظمين الذين تسيطر عليهم الحكومة.

فإذا كان الناس فى لبنان مسلمين ومسيحيين، والناس فى العراق عربا وكردا وسنة وشيعة، فالخلق فى مصر حكومة وأفراداً، أفراد كثيرون، لكنهم إن لم تنظمهم الحكومة، يظلون أفرادا لا جماعات.

ثم هناك المقولة المعروفة عن الطبيعة الجغرافية لمصر، فليس فيها من الجبال المأهولة ما يتحصن فيه المتمردون مستغنين عن النهر. والنهر ذاته كان من قديم الأزل وسيلة الاتصال والإيصال الأهم التى تؤهل الحكومة المركزية من اختراق أية قرية متمردة إن وجدت.

لذلك فإن تاريخ مصر تاريخ من الاستقرار النسبى، والاضطرابات المؤدية لتغيير نظم الحكم فيه كانت اضطرابات بين الحكام أنفسهم لا بينهم وبين الناس، والعصر المملوكى كله دليل، فلم يستطع العربان أو الفلاحون قلب سلطان سوء مملوكى عن عرشه، بل كانوا مملوكا يخلع مملوكا إلى أن انتهوا جميعا مقتولين فى القلعة، قتلهم الوالى لا الناس.

وانشقاق النخبة نادر، لأن النخبة بالتعريف جماعة من المنتفعين بوضع البلاد، فلا دافع لديهم لتغييره.

وهذه الحال، تجعل حكم مصر سهلا نسبيا إذا قورن بالعراق أو الشام، وهو من عناصر قوة مصر فى لحظات النهوض، فالمصريون أهل جماعة، وتوحيد كلمتهم أسهل من توحيد كلمة جيرانهم، وحاكم مصر إن أراد النهوض بها أقدر عليه من غيره، لأنه يطمئن إلى استقراره بينما يصرف أكثر حكام البلدان الجبلية والوعرة المجاورة أوقاتهم وجهودهم فى حماية أنفسهم.

أما فى لحظات الركود، فيقعد حاكم مصر بالبلد قعودا فهو قعيد، ويحتار الناس فى خلعه ما لم يتمرد عليه بعض أعوانه، وتنشق عنه نخبته.

غير أننى أزعم، كما قلت فى أول المقال، أن النادر قد حصل، أو هو على وشك الحصول، فقد ظهرت بوادر انشقاق فى النخبة الحاكمة المصرية فى العصر الحالى مرتين، مرة عند تحرك القضاة، ومرة عند تشكيل جمعية التغيير. أما فى المرة الأولى فإن أفراد النخبة المنشقين، أى القضاة، والقضاء ثلث السلطة، لم يذهبوا إلى الحد الأقصى فى المواجهة، وأما فى المرة الثانية، فها نحن ننتظر لنرى.

والالتقاء بين الجزء المنشق من النخبة وعامة الناس ربما تمثل اليوم فى لقاء البرادعى بالإخوان. غير أن الاثنين لايزالان يبديان ترددا يولد انطباعا لدى مراقبيهما بأنهما غير قادرَين ولا راغبَين فى المواجهة اللازمة للتغيير.

وهذا ربما يكون ذكاء منهما ليتفاديا ضربة استباقية لهما معا أو لطرف منهما، فهما ينتظران أن يقضى الله أمرا كان مفعولا ليتحركا، فإن كان هذا ما يضمران فربما يظفران، وإن كانا لا يضمران شيئا من هذا وكان ما يبديان من عزوف وتردد سياسة معتمدة لديهما، فأبشر بطول سلامة يا مربع.

وبين الاحتمالين تقف الهراوة واثقة بقدرتها على الجمع والتفريق، مستهينة بالخلق مطمئنة إلى متانة خشبها، ولكن قاعدة واحدة فى العلم السياسى لاتزال صالحة فى كل حال، وهو أن الاطمئنان الشديد مدعاة للقلق، وقديما قيل من مأمنه يؤتى الحذر، والله من وراء القصد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved