مناظير مصرية على الدولة الإسلامية فى العراق والشام

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الإثنين 23 يونيو 2014 - 2:21 م بتوقيت القاهرة

لم يمسك أحد بقلمه فى الصحافة المصرية فى الثلث الثانى من شهر يونيو للتعليق على استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام (داعش) على مدينة الموصل، ثم تقدمها نحو بغداد، إلا وأبدى انزعاجه من الحركة وتقدمها وفرض سيطرتها على مناطق فى العراق. أزاحت داعش الحاجز الترابى الذى مثل الحدود بين سوريا والعراق، وفتحت هذه الحدود لتسجل نجاحها فى عدم الاعتراف بها وفى تقدمها نحو إقامة الدولة الإسلامية الواحدة فى العراق، من جانب، وفى سوريا الكبرى كلها، من جانب آخر. يتصوَر المراقب أن فى مصر من يشعرون بالغبطة لما حققته داعش ولكن لم يتطوع أحد منهم للتعبير علانية عنها.

•••

توجد مناظير ومستويات عديدة لتحليل داعش ونجاحاتها العسكرية. من منظور عراقى، الكثيرون يرون فيها رد فعل على السياسات الإقصائية للحكومة العراقية القائمة التى لم تدمج العرب السنة فى مشروع الدولة العراقية الجديدة وعمدت إلى الانتقام من عقود، وربما قرون، من تهميش العرب الشيعة فى ظل الدولة العثمانية ووريثتها فى العراق، الدولة العراقية، منذ نشأتها ثم استقلالها فى سنة 1932. منظور ثان هو ذلك المتعلق بالصراع الإقليمى السعودى ــ الإيرانى الذى اتخذ شكل الصراع المذهبى، وانتهى إلى لمعان نجم داعش وانتصاراتها باسم السنة وعلى خلاف رغبة الزعيم الإقليمى للسنة نفسه، وقد أدرك خطورة الجنى الذى أطلقه من قمقمه ونفخ فيه بالأفكار والموارد والتشجيع. منظور ثالث يضع داعش وتقدمها فى إطار الحرب الأهلية السورية فيشير البعض إلى محاربتها للمعارضة العلمانية وإلى صراعها مع غيرها من الحركات الجهادية العنيفة وتفوقها عليها، ويومئ البعض الآخر إلى تلاعب النظام الحاكم فى سوريا بداعش واستغلاله لها. منظور رابع يلفت النظر إلى الفكر الإقصائى لداعش نفسها وإلى طابعها الأممى، حيث يكثر بين صفوفها المقاتلون غير العرب المجندون والمحاربون من أجل مشروع بناء سياسى دينى عبر وطنى لا يعبأ بالمجتمعات الوطنية والمحلية وفى مشكلات الحياة فيها والتعايش بين سكانها.

•••

المناظير من مصر يبدو أنها تأخذ من كل هذه التحليلات وغيرها وتجد فيها الأسباب لاستنكار ما تمثله داعش ولرفض المشروع السياسى الذى تجسده. التاريخ والجغرافيا جمعتا المصريين بغيرهم من العرب، والثقافة العربية تقرب بينهم وتخلق لديهم وعيا متآلفا ومصالح متلاقية. ولكن المصريين من الشعوب النادرة التى تجمع أكبر قدر من المواصفات الضرورية للانتظام فى دولة وطنية، ذلك النموذج للتنظيم السياسى الذى وجدت البشرية، منذ منتصف القرن السابع عشر، أنه أكثر ما يلائم الاجتماع البشرى، حتى أن أكثر المصريين يعتبرون أن الدولة الوطنية كانت موجودة منذ القدم ولا يتنبهون إلى أن هذه الدولة لم يكن لها وجود لا فى ظل الدولة العثمانية ولا ما سبقها من حكم إسلامى. ما يبرر نظرة المصريين للدولة الوطنية هو أن أغلب عناصرها اجتمع لديهم منذ القدم حتى بدت هذه الدولة النموذج الطبيعى للتنظيم السياسى. لهذه الأسباب، يستنكر المصريون المساس بأى دولة تأخذ بنموذج الدولة الوطنية ويعتبرونه نيلا ممكنا من تنظيمهم الوطنى نفسه.

ولكن المناظير المصرية تستنكر داعش وما تمثله لأسباب فكرية أساسية أيضا. أنصار القومية العربية والعروبيون عامة، فى مصر وغيرها، دائما ما نددوا بالحدود التى رسمتها بريطانيا وفرنسا بمتقضى اتفاقية سايكس بيكو فى سنة 1916. أرادت بريطانيا وفرنسا بهذه الاتفاقية إرساء نفوذ كل منهما فى منطقة الشرق العربى، وهو النفوذ الذى انعكس بعد ذلك فى نظام الانتداب فى ظل عصبة الأمم، وكان سبيلهما إلى ذلك النفوذ إنشاء دول تأخذ بنموذج الدولة الوطنية، فى داخل الحدود التى رسماها، على أنقاض الدولة العثمانية. اعتراض القوميين العرب واستنكار غيرهم من العروبيين كانا راجعين إلى أن السكان فى كل من الدول الناشئة على حدة لا يجمعون المواصفات الضرورية للدولة الوطنية، وهم رأوا أن هؤلاء السكان مجتمعين هم من يستطيعون تكوين شعب يمكن إذا ما اتخذت السياسات المناسبة أن ينخرط فى دولة وطنية ذات معنى. كان المنتظر من هذه السياسات أن ترتقى بالتنظيم المجتمعى وأن تتغلب على الطائفية والمذهبية. الاعتراض على اتفاقية سايكس بيكو ودعوة القوميين العرب إلى تخطيها كانت لأسباب هى النقيض تماما لأهداف داعش من إزالة الحدود بين العراق ودول الشام، فأهداف داعش تكمن فى بناء دولة طائفية مذهبية تميز بين السكان العائشين على أرض واحدة على أساس الدين والمذهب.

•••

فضلا على ما سبق، يتطلع العروبيون وغيرهم من التعدديين فى مصر إلى بناء مجتمع حجر الزاوية فيه هو قبول تباين الآراء وتعارضها وتلاقحها، والمساواة وعدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو المذهب أو العرق أو الجنس، أو الأصل الاجتماعى أو الرأى السياسى. التعدديون لا يفوتهم أن المسألة لدى داعش ليست مسألة دفاع عن حق العرب السنة فى المشاركة فى الحكم، ولا هى إسقاط اتفاقية سايكس بيكو فقط، وإنما هى مسألة بناء مجتمع الحقيقة السياسية والاجتماعية فيه مطلقة، لا مجال فيه للاختلاف، مجتمع يمارس فيه التمييز ضد النساء بضمير مرتاح بل وبمبررات أخلاقية ودينية، كما يمارس فيه التمييز ضد المواطنين من غير المسلمين السنة بنفس الضمير المرتاح وبمبررات أخلاقية ودينية شبيهة.

•••

أفكار داعش غريبة على الوطنية المصرية المجردة، وعلى القومية العربية، وعلى التعددية، العروبية منها وغير العروبية، اليمينية منها والوسطية واليسارية. غرابة هذه الأفكار لا تعنى أنه يمكن الاطمئنان إلى أنه لا منفذ لها إلى مصر. لقد بدأ تكون الأساس الفكرى الوهن لداعش وأخواتها منذ عشرات السنين عندما شجعت بعض حكومات المنطقة، ومن بينها الحكومة المصرية، «المجاهدين» على الذهاب إلى أفغانستان لمحاربة الكفر والكفار هناك. وأوجد الاحتلال الأمريكى البيئة السياسية المواتية للطائفية والمذهبية عندما كسر التكامل الوطنى العراقى وأنشأ، منذ أسابيعه الأولى، مجلسا للحكم الانتقالى فى العراق على أسس طائفية ومذهبية وعرقية.

السبيل إلى التحصن ضد أفكار داعش وأخواتها هو بالاحتفاء بالتعدد وبتشجيعه، وبالانفتاح على الأفكار والآراء كلها، وبالقبول بنسبية الحقيقة السياسية والمجتمعية، ثم هو ببناء النظام السياسى المستوعب للتعدد والانفتاح والحقيقة النسبية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved