عَ هدير البوسطة.. النيويوركية

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 22 يونيو 2016 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

تحركت الحافلة الصغيرة لتقلنا من مدينة نيويورك إلى إحدى الضواحى القريبة، كل المقاعد داخلها مشغولة بركاب يحملون معهم أكياسا بلاستيكية يظهر فيها ثياب وأحذية وعلب أدوات كهربائية، حتى أن إحدى الراكبات قد وضعت مكنسة كهربائية فى أول الحافلة قرب السائق وقالت إنها ستأخذها حين تصل إلى مكان نزولها. لم يستغرب السائق بل ضحك مع الراكبة قائلا إنها حتما ستنساها، فمن يريد أن يقوم بتنظيف البيت فى نهاية يوم مرهق؟ أجلس على الكرسى بجانب سيدة سندت كيس مشترياتها على شباك الحافلة فما عدت أستطيع أن أرى المنظر خارجها. فى الكيس يبدو لى أنها لفت سجادة بقماشة بيضاء ربما لتحميها من المشوار، أنظر أمامى من زجاج السائق لأرى الطريق وزحمة السير.

الناس من حولى يتحركون فى أماكنهم، يتلفتون فيتحدثون مع من بجانبهم ومن أمامهم أو خلفهم، وأسمع أجزاء من أحاديثهم التى تدور كلها باللغة الإسبانية، بينما يحركون أيديهم حين لا يكونون بحاجة إلى أن يمسكوا بالأكياس حتى لا تقع. سائق الحافلة يستمع، ويجبرنا أيضا على أن نستمع معه، إلى موسيقى فرحة بإيقاع سريع، يغنى مع الراديو ثم يسكت وهو يهز رأسه وحتى يصفق أحيانا فيضحك الركاب. يرن هاتف فيرد السائق، وهو شىء يعاقب عليه قانون المرور بشدة فى الولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصا فى نيويورك التى هى من أكثر الولايات صرامة فى القوانين.

***

أنظر حولى وأضحك لما فى الجو من خفة ظل وبهجة تتناقضان مع حدة مدينة نيويورك، الحافلة عبارة عن باص صغير كذاك الذى يتحرك فى سوريا أو فى لبنان بين القرى، والذى تغنى عنه فيروز «عَ هدير البوسطة»، فالبوسطة فى كلام الجيل القديم فى سوريا ولبنان هى الحافلة التى كانت فى الزمن القديم تنقل البريد والناس جماعة من مكان إلى مكان، أو «من ضيعة حملايا على ضيعة تنورين». المنظر هنا فى نيويورك جديد على، ففى هذه المدينة الصاخبة لطالما بدا لى أنه وحتى فى الزحمة هناك نظام صارم، ينطبق حتى على المجتمعات المهاجرة حديثة الوصول. فى هذه الحافلة شعرت أننى فى الطريق إلى حمص أو تدمر أو حماه أو حلب مع وجوه مألوفة، رغم اختلاف ملامح من معى فى الحافلة حيث إنهم كانوا جميعا ومن دون استثناء من بلاد أمريكا اللاتينية ويتكلمون مع بعضهم البعض باللغة الإسبانية حتى لو بلهجات مختلفة.

***

فى يوم آخر استقللت حافلة أكبر لأعود من إحدى الضواحى الأخرى إلى نيويورك فى ليلة يضيؤها بدر مكتمل، المنظر سريالى فنحن محاطون بالغابات والسواد، والقمر كالفانوس يمشى فوقنا فيدلنا على الطريق. الباص نصف ممتلئ وصمته لا يعكره أى صوت. الركاب تم تحذيرهم فى أول الرحلة: «الرجاء عدم الحديث على الهاتف المحمول لتفادى إزعاج الآخرين، التدخين ممنوع، ممنوع الوقوف أثناء تحرك الحافلة، وممنوع وضع أغراضكم على المقاعد فمكانها على الرف فوق رءوسكم»، حتى أننى أحسست أننى فى طائرة ولست فى باص. وفعلا لم ينبس أحد ببنت شفة طول الرحلة، مما زاد من الشعور بالرهبة والباص يشق طريقه فى الظلام.

إنما حين مشت شابة بين المقاعد لتوزع علينا زجاجة ماء وكيسا فيه رقائق البطاطا، ابتسمت وأنا أتذكر رحلاتى مع أقربائى من دمشق إلى حلب فى الباصات السورية، حيث كانوا أيضا يوزعون علينا وجبة خفيفة فى علبة كرتونية مربعة. كانت هناك شاشة فوق رأس السائق غالبا ما كانت تعرض فيلما لعادل إمام يضعه السائق فى جهاز الفيديو المركب تحت الزجاج الأمامى، فيظهر الممثلون على الشاشة ويلعلع صوتهم عاليا ليتمكن جميع من فى الحافلة من سماعه.

***

هنا فى أمريكا، وأنا أبعد ما أكون عن عالمى، أبحث فى التفاصيل اليومية، دون قرار واعٍ منى، عن أى شىء يمكن أن أستعيد من خلاله ذكرى أحبها. أتفاجأ كل مرة بأهمية تفصيل ما بدا لى يوما أنه دون أهمية حتى إننى لم أعره وقتها أى اهتمام، إلا أنه سجل نفسه فى مكان ما فى ذاكرتى وعاد فظهر لى فى باص فى إحدى ضواحى نيويورك.

تختلط على الأمور، فأنظر إلى السيدة الجالسة بجانبى قرب الشباك علنى أتعرف على ملامحها، وأكاد أسألها إن كانت تحمل فى كيسها حلاوة الجبن التى كنا نشتريها من حمص أو من حماه، حين كان الباص يقف بِنَا هناك كى نستريح من طول المسافة بين دمشق وحلب. أو إن كانت معها هريسة (بسبوسة فى اللهجة السورية) قد تكون اشترتها من أول محطة قد يقف فيها الباص بعد أن يغادر دمشق وهى النبك حيث الهريسة المشهورة التى تغطيها فرشة من الفستق الحلبى تكاد تختفى تحتها العجينة بكاملها.

***

فى رحلتنا بعيدا عن البيت والوطن، يبدو أننا نستعيد بعضا من أنفسنا فى عمليات إسقاط نجريها طوال الوقت على كل شىء من حولنا. الحافلة الصغيرة بسائقها السعيد تذكرنا بالطريق إلى اللاذقية فى الصيف، الحافلة الكبيرة ذات الستائر المخملية تذكرنا بالطريق إلى تدمر فى الشتاء. وجبة الحافلة تذكرنا بكيف كنا نأخذ علبة العصير وقطعة الحلوى من كرتونة الوجبة ونترك الخبزة والجبنة لأنها حينها لم تكن تعنينا. فى الباص فى نيويورك، تصدح فيروز فى رأسى «تذكرتك يا عليا... وتذكرت عيونك، يخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved