ديك البرابر

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 22 يونيو 2019 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

يوم أحد على كورنيش بيروت والجو صحو، الديك يصيح بأعلى صوته ليعلن شروق الشمس. نفش ريشه البني اللامع، معلنا عن حضوره في مساحة الأرض الفضاء التي تحيط ببيت صغير بدائي لا يزال محتفظا بموقعه على شط البحر، في تناقض واضح مع البنايات والأبراج الشاهقة التي شيدت على الطرف الآخر. حياة أخرى بسيطة في الخلاء لا تمت بصلة لكل ما حولها، لا نعرف تماما سر وجودها هنا. أراقب الديك بألوانه المتغيرة وأدائه الفخور، يسير معتزا بعرفه الشامخ الكبير، وكأنه يعلم أنه أحلى وأكبر حجما من كل العشر دجاجات اللائي لا يعرفهن تماما، فهو يبدو كقلة مندسة، حديث العهد بهن ودخيل على المكان، رغم إحساسه بالزهو.

غالبا أدخله صاحب البيت ليلا كالعادة، لكي تجده الدجاجات فور أن تستيقظن. وبالفعل مددن رقابهن للأمام في محاولة لاستكشافه، وكأنهن وقفن على أطراف الأصابع. ثم بدأت رقصة الديك للفت الأنظار. على كل حال لا فائدة من الصياح أكثر من ذلك، فلا يوجد أقران له يرد على آذانهم ويتبارى معهم في هذه المنطقة ذات البنايات الفاخرة، فقط أراد أن يثبت سلطته على الدجاجات أو غالبا هو صياح يتحكم فيه الإيقاع اليومي للجسم وساعته البيولوجية أكثر من ارتباطه بنور الشمس. ولا أظن أنه كانت هناك ملائكة يناجيها كما يقال. لذا حان وقت الرقص ونفش الريش أكثر فأكثر لاستعراض بطولة زائفة. مال قليلا إلى الأمام وارتفعت جوانحه، واستعد للتقرب من الدجاجات، وكأنه الإسكندر الأكبر يستعد لفتح كبير، ومع ذلك لم يثر اهتمامهن بالشكل الكافي. استمرت عمليات الكر والفر، وفي النهاية انتصر الديك، وصار يمارس دوره التاريخي.

***
حسه الأمني المرتفع يجعله ينذر بوجود الغرباء والزوار الجدد أمثالي، ويا ويل الدجاجة الغشيمة إذا ما تجاوزت السياج، ينتف ريشها المتطاير كزوبعة، فمثله مثل العديد من الزعماء المفطورين أقنعهن من خلال الأساطير والأكاذيب حول قدرته على الدفاع عنهن وإكسابهن الشعور بالأمان، فحركته وضجيجه يكسران الهدوء، وهو يواجه الديوك المنافسة أو الأشخاص المتطفلة، في حين تهرب الدجاجات يمينا ويسارا.

أراقب السلوك الفطري لهذه الكائنات الصياحة، واسترجع التراث الشعبي لهذه البلاد والأمثال المتعلقة بالديك والدجاجة، وهي حصيلة تفاعل بين الإنسان والبيئة الجغرافية وطبيعة الحياة، وبها العديد من ملامح علاقات الرجل والمرأة والبشر عموما. تتردد أمثلة من نوعية: " الديك بيموت وعينه على المزبلة" بمعنى أن الطبع غالب وأن الإنسان على ما جبل عليه. وهناك أيضا " كل ديك على مزبلته صياح"، أي أن الرجل بين أهله وفي بلده يكون شجاعا وكلمته مسموعة.

***
تستفزني فكرة الإصرار على لعب دور الديك الذي يحمي ويدافع وتلتف حوله الدجاجات ويساعدهن على التقاط الحب خاصة المفضلات لديه، ونحن في مزبلة تلقى فيها القمامة والأوساخ، لكن هناك إصرار على توزيع الأدوار على هذا النحو. المهم أن يظل الديك ديكا، والدجاجة دجاجة. ترتبط بهذه الأخيرة دورة الحياة، فهي ترقد على البيض حتى يفقس، وهي من تتولى تعليم صغارها نقر الحب وتجمعهم حولها. والديك منشغل بلعب دور الديك، ويزهو بما يتردد أن صياحه يطرد الشياطين ويجلب الفأل الحسن، وبأن صياحه بعد المطر ينبأ بقرب طلوع الشمس. وقطعا يهتم بدوره في عملية التكاثر وقدرته على الإخصاب التي تقل في سن 7 أو 8 سنين، ومن حوله الدجاجات كلهن يحاولن استمالته، فيطلق عليهن في فلسطين مثلا "حريم أبو القاسم"، وهو كما نقول في مصر يصير "ديك البرابر".

حمش، متعالي، يغار من الديوك الأخرى على مزبلته، ويستمتع برؤية الجنس الآخر ملتف حوله.. يرضي ذلك غروره، وبعضهن يهمسن في السر: " إن اللعب مع ديك البرابر ممتع"، فترد أخريات: "لكن ثمنه باهظا، وانتهت موضته منذ قرن". ويعلق فريق ثالث من الديوك والدجاجات: "وما الفائدة وكلنا في المزبلة؟". ثم تقترب دجاجة مارقة من سور الكورنيش، غير عابئة، وكأنها تقول: " لا داعي للخيلاء، فقد أشرقت الشمس منذ ساعة، من تلقاء نفسها دون إذنك المقدس، بحسب التوقيت المحلي لمدينة بيروت"، معلنة بذلك تمردها على قوانين الديك والمزبلة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved