أوباما فى بلاد الملونين

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 23 يوليه 2009 - 1:51 م بتوقيت القاهرة

أكتب عن رحلة أوباما فى عالم السود بعد أن هدأت العواطف الجياشة. انتهى الجزء الأول من رحلته برحيله من أكرا عاصمة غانا وانتهى الجزء الثانى من الرحلة فى نيويورك بعد إلقاء خطابه أمام منتدى منظمة تضم ممثلى الأقليات الملونة فى الولايات المتحدة. الجزءان يكملان بعضهما البعض فالرحلة كانت إلى عالم يسكنه السمر والسود. منهم من يعيش فى أفريقيا ومنهم من يعيش فى الشمال حيث الأغلبية مازالت بيضاء. فى هذه الرحلة كانت المفارقات كثيرة والعواطف بالفعل جياشة.

تكررت الصور. كان الاستقبال دافئا والترحيب صادقا، الأمر الذى يؤكد أن المواطن فى غانا كالمواطن الذى قابله أو سمع عنه أوباما فى القاهرة وفى موسكو وأنقرة مازال يعلق آمالا على هذا الرجل الذى قفز بنجاح وجهد فوق حواجز عديدة، سياسية واجتماعية، ليساهم فى صنع معادلة حكم جديدة فى الولايات المتحدة، وفى وضع صياغة مختلفة لدور أمريكا فى السياسة الدولية.

تخفى هذه الحماسة التى عبرت عنها استطلاعات رأى كثيرة وصور تليفزيونية عديدة أن الناس، أو نسبة كبيرة منهم على الأقل، تعتقد أن الإصلاح فى بلادهم يعتمد بدرجة أو بأخرى على إصلاح البيت الأمريكى، وتراهن على أن أوباما صادق فى نيته تحسين أداء الحكومة الأمريكية وتطوير ممارساتها وسياساتها الخارجية، وتظن، أو كانت تظن، أن دعمها له سيساعده على تحقيق آماله وأحلامه.

وبالفعل كان الدعم مفيدا له وللمحيطين به. ففى الشرق الأوسط سمح له هذا الدعم منقطع النظير بأن يطلب وبجرأة متناهية أن تستعد الدول العربية لعمليات تطبيع هائلة لن تتناسب بأى حال أو معيار مع ما ستقدمه إسرائيل فى المقابل. ونعرف الآن أنه قال هذا الكلام لأقرانه ومسئولين آخرين فى بعض الدول العربية.

وفى روسيا سمح له الدعم، وإن جاء الدعم مشوبا بحذر روسى أصيل، بأن يلقن الحكومة الروسية درسا فى احترام القانون ويكاد يأمرها بالإفراج عن عدد من كبار الممولين المتهمين بالغش والتحايل وسرقة ثروات الدولة وتهديد مصالحها وتعريض أمن روسيا القومى للخطر. وسمح له بأن يتصلب فى موضوع إقامة درع الصواريخ فى التشيك وبولندا. وسمح أيضا بأن يؤجل المحللون والإعلاميون القيام بواجبهم إجراء تقويم شامل لسياسات أوباما خلال الأشهور الستة التى قضاها فى الحكم. وهو الأمر الذى لم يحدث من قبل مع أى رئيس آخر.

ومع ذلك بقيت جيوب تحافظ على شكوكها فى سلامة توجهات أوباما، وجيوب أخرى غير واثقة من قدرته على تنفيذ ما وعد به، وجيوب مدركة أن أقصى ما يستطيع أن يفعله أوباما هو أن يحل بوجهه البرىء والمحبب محل وجه الرئيس بوش، وكان كريها ومكروها. تلقى النصيحة مرات من حكام أجانب ومن سياسيين متشددين فى الولايات المتحدة أن يحتفظ بيد بوش، وكانت غليظة وعنيفة. نصحوه أن يجمع بين الاثنين يد بوش الغليظة ووجهه البرىء. من داخل هذه الجيوب تخرج الآن فى العالم العربى والإسلامى أسئلة عديدة تسعى للحصول على توضيحات عن خطط أوباما فى العراق وأفغانستان وفلسطين والديمقراطية وحقوق الإنسان والإرهاب أو حقيقة مواقفه منها.

شىء من هذا القبيل حدث خلال زيارة أوباما لغانا. كان جونى كارسون مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشئون الأفريقية قد صرح قبل بدء الزيارة بأن أجندة الرئيس أوباما فى أفريقيا تركز على قضايا أربع هى تنمية وتعزيز الديمقراطية وحكم القانون، ومنع المنازعات أو تهدئتها، وتشجيع تنمية اقتصادية مستدامة ونمو طويل الأجل، والعمل مع الأفارقة على التصدى لتحديات عالمية وإقليمية عديدة. ولا يحتاج الأمر إلى متخصص فى الشئون الأفريقية والأمريكية ليقرر أنه لا يوجد فى هذه الأجندة ما لم يكن موجودا فى عهد الرئيس بوش ومن قبله فى عهد الرئيس كلينتون. هنا أيضا أثيرت وتعددت الأسئلة الساعية إلى توضيحات، إذ لم يأت فى حديث كارسون، أو فى خطاب أوباما، ذكر للزيادة المقررة فى ميزانية 2010 للقيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا، ولا إلى الزيادات المقترحة فى الميزانيات المتخصصة للحرب ضد الإرهاب.

ويعتقد المتشككون وفى معيتهم الباحثون عن توضيحات أن اختيار غانا محطة يتوجه منها أوباما إلى شعوب أفريقيا يعود إلى أن المؤسسة العسكرية الأمريكية أرادت استثمار البراءة فى «وجه» أوباما وشعبيته لتحصل على موقع للقيادة المركزية على أراضى غانا بعد أن رفضت جميع الدول الأفريقية باستثناء ليبيريا هذا الطلب. يعتقد آخرون أن المصالح النفطية كانت وراء اختيار غانا. يدللون على ذلك بأن أوباما أشار إلى موضوع النفط فى خطابه فى أكرا داعيا حكام غانا إلى عدم الاعتماد على النفط وحده فى خطط تنمية الدولة. يقولون: إن الرئيس بوش فى تبريره إعطاء أفريقيا الأولوية فى سياسته الخارجية عام 2003 قال إنه سيعمل على أن تحصل الولايات المتحدة على 25% من نفطها من منطقة غرب أفريقيا. ويضيف هؤلاء، أما وأن نيجيريا قد خيبت الآمال بالفوضى الضاربة فيها، لم يعد أمام الأمريكيين سوى غانا لتعوض نقص الإنتاج النيجيرى.

أعتقد أن أوباما مازال يستحق فترة سماح أخرى بشرط أن تحتفظ حكومات العالم العربى وأفريقيا بعيونها مفتوحة، أو تعود إلى فتحها الدول التى كانت أغلقتها انبهارا بالرجل أو احتماء من طوفان محبته بين الشعوب. حق لنا جميعا متشككين أو مصدقين أن نسأل وأن نسعى إلى توضيحات وتأكيدات. نخطئ إذا سايرنا الوهم بأن الرئيس الأمريكى سوف يمشى على خطى غير خطى رسمتها وحددتها المصالح الأمريكية عبر عقود وربما قرون. أو الوهم بأنه يجرؤ على الاصطدام بالمؤسسة العسكرية ومصالحها المتشعبة أو بالمؤسسة اليهودية وهيمنتها العنكبوتية التى صار يحذر منها مفكرون وأكاديميون متزايدو العدد. أسهل عليه أن يتناطح مع تيارات مسيحية وإسلامية وأقليات عرقية من أن يصطدم بهاتين المؤسستين.

أشترك مع آخرين فى الاعتقاد بأن اختيار غانا منبرا لرسالته إلى السود خاصة والملونين عامة وقع لأسباب كثيرة، منها بطبيعة الحال المصالح العسكرية والنفطية. إلا أنه يجب الاعتراف بأن أوباما ما كان يستطيع أن يختار نيجيريا والفوضى فيها مستعرة، وما كان ليختار كينيا لخوفه من فساد حكامها وسوء إداراتها، بالإضافة إلى تجربته الشخصية فيها وكانت أليمة. ويجب الاعتراف أيضا بأن غانا تمثل بالنسبة للأمريكيين من أصل إفريقى شيئا مختلفا ويخصصون لها مكانة متميزة فى تراث نضالهم من أجل المساواة والعدالة. أذكر أن غانا كانت الدولة الأفريقية التى ساندت أكثر من غيرها حركة السود فى أمريكا ولجأ إليها عدد من زعماء الحركة وأقاموا فيها. أذكر جيدا أنه فى يوم إعلان استقلال غانا طالب الرئيس كوامى نكروما بتحرير السود فى أمريكا ووجه الدعوة إلى مارتين لوثر كنج لحضور احتفالات الاستقلال. أذكر ولا شك يذكرون فى أكرا أن غانا وجهت الاتهامات إلى وكالة الاستخبارات الأمريكية بمحاولة اغتيال الرئيس نكروما فى عام 1966. بكلمات أخرى، روعى فى اختيار غانا دون غيرها من الدول الأفريقية منها الحاجة إلى كسب ود الأغلبية السوداء فى أمريكا وجذب انتباهها قبل أيام من مثول أوباما أمامها فى نيويورك ليلقى خطابا طال انتظاره.

انتهت زيارة أوباما بعد أن انتقد تصرفات حكام أفريقيا وفسادهم ونهب أموال المستثمرين والمدخرين وعاد إلى الولايات المتحدة. هناك استقبلته جريدة وول ستريت جورنال بتعليق على الزيارة يلخص فى ذاته تعليقات مشابهة ترددت عقب زيارات أوباما للقاهرة وأكيلا وموسكو. جاء فى التعليق «لو أن أوباما طبق ما نصح به أهل غانا وحكومتها على أمريكا لصدقه الجميع فى كل ما قال».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved