السؤال الثامن: سؤال النخبة

الطاهر لبيب
الطاهر لبيب

آخر تحديث: الجمعة 22 يوليه 2011 - 9:24 ص بتوقيت القاهرة

نحن نثور فنحن إذا موجودون: هذا ما عبّر عنه الثائرون، بصيغهم، فى الميدان. تلقائية الحدث أوجدتهم، فى الميدان، وحدهم، بلا قيادة. نشأ عن هذا موقف «ميدانى» من النخب «الغائبة»، نزع عنها الثورية.

ارتباك هذه النخب دفعها إلى الاعتذار عن عدم الحضور فى الميدان أكثر مما دفعها إلى الإقناع بما كانت فعلت، قبله. هكذا أصبح الاعتراف بتلقائية الثورة تجاهلا أو حيفا فى حق نخب، منها ما هو أقدم ثورية من الميدان، وإن لم تصنع ثوريتهُ ثورة.

صحيح أن ما آلت إليه النخب، إلى حدود الثورة، كان فى الجملة، مفزعا، ومنه ما كان فيه تواطؤ مبتذلٌ مع نظام قمعى، فاسد، ولكنّ تكوين النخب وأطوارها وأدوارها أوسع من ظرفيّاتها. إن ظرفيةَ التقييم ليس لها أن تُهمل ما بذلتِ النخب، عبر العقود، من جهد النضال، فى الفكر والسياسة، وما تراكم من ذلك، عبر العقود. وليس هذا التراكم محصورا فى مجال أو تصنيف: فإذا كانت الحركات والأحزاب والنقابات، مثلا، هى مما يُعلَن نضالهُ فإن الفكر النقدى والإبداع الأدبى والفنى والدرس الجامعى المعمِّق للوعى بالتاريخ والظواهر هى أيضا مما تراكم، ليصبح من جملة العوامل الموضوعيّة للثورة. هذا معطى، وهو مما فعّل «الميدان». اختزاله لا يجرّد الثورة من رصيدها الفكرى فقط، وإنما ــ وهذا أدهى ــ يمرّر إليها، أيضا، أعراض نظامٍ سابق، عادَى الفكرَ وأهله. لن يبقى كثير من ظرفيات النخب، فهى تتوالد، تتجدّد، ويُنسى بعضها بعضا. محصّلة التراكم وحدها تبقى، فى الوعى الجماعى. وإذا كان ذلك، فكيف يمرّ ما يتراكم فى التجربة الثورية إلى هذا الوعى الجماعي؟ بالممارسة وبالتفاعل فيها، أولا. هذا قيل كثيرا ومعروف.

لكن الثورة، خصوصا إذا حدثت فى ظروف الثورات العربيّة وثقافتها، تحتاج إلى خطاب تبنيه، له من التماسك ما يضمن نشره وفاعليته واستمراره. هذا الخطاب جماعيّ وروافده من كل مجال، ولكن صياغته من مهام فئةٍ لها القدرة على تحويل «الخام» إلى منظومة تستوعب عمق التجربة الثورية وتكسبها بعدا فكريا ومعرفيا ييسّر التأمل فيها وتناقلَها ويبنى مرجعيّتها. هذه الفئة فكرية، بالدرجة الأولى، وقد لا يكون لها منزع إلى القيادة، كما أنّ لها أن تسميّ نفسها أو أن تسمَّى بأسماء كثيرة، ولكنّ مكانتها المعروفة هى مكانة ما يسمَّى نخبة.

ما لاح، فى بدء الثورة، من ردِّ فعل رافضٍ أو متحفظ أو مستخفّ بالنخب، كان منتظرا فى حدود ظرفه، وفى سياق عمّت فيه سلبيةُ النظرة إلى النخب الفكرية والسياسيّة و«دُفن» فيه المثقف.

هذا إذا لم نعد إلى قديم التحفّظ والحذر من «بورجوازية صغيرة» مستقطَبة، تميل مع الريح ولا تستقرّ على مبدأ. وإذا كان من مفارقة فى هذا فهى فى أن الموقف من النخبة الفكرية، تحديدا، لا تتخذه الفئات العريضة، فهو ليس من همومها، وإنما تتخذه فئات النخبة، بعضها من بعض. وللمناسبة، فإن التناقد، فى النخبة، لا يُفضى، أبدا، إلى نقد ذاتى.

كلّ هذا لا ينفى أن الثورة، هى أيضا، تفرز نخبتها. ملامح هذه النخبة الجديدة بدأت تظهر بين المنضمِّين إلى الثورة ومسانديها، وكذلك بين الثائرين أنفسهم. ومن أبرز ملامحها الفكريّة ميلٌ عند البعض إلى المفْهمة وإلى البحث عن مرجعيّة وعن سند معرفى يذكرونه. لقد ظهر، فى الانتماء الثورى، تمييز بين «الميدانيين» و«الخطابيين». هذا، على الأقل، قبل أن يتراجع «الميدانيون»، إلى مواقعهم فى الحياة الدنيا.

أما «الخطابيون» فمنهم من لا يحتاج إلى تعريف لدى عموم الناس، ولكن أغلبهم ممّن لم يُعرفوا واتضح، فى وسائل الإعلام، تنوّعهم وكثرتهم. ومهما كانوا، فموقفهم من النخبة، باسم الثائرين، هو مسلك معهود إلى النخبة، ولربما إلى النخبويّة، ولو من دون إحساس منهم بالمشى فى هذا المسلك.

للثورة، إذا، نخبتها، واقعا وإمكانا: نخبةٌ يُنتظر أن تتكوّن حول أهداف ومطالب ومعانٍ جديدة. نخبةٌ، فكرية بالخصوص، تقتنع بأنْ لا ثورة من دون فكر مبدع، وبأنّ الثورة أكبر من أن تُترك للسياسيين يتدبّرون أمرها.

وهى، ككل نخبة، شاءت أم أبت، ستعامَل، وقد تواجَه، على أنها نخبة. لن تخرج، فى هذا، عن مبدأ عامّ تحكّم فى ثورات أخرى. من رأى فى النخبة «شرا»، فسيرى أنه «لا بد منه».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved