مظلومون محظوظون

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الجمعة 22 يوليه 2016 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

تلقيت رسائل عدة سألتنى معاتبة: لماذا لم أكتب شيئا تضامنا مع المحامى مالك عدلى، الذى لم يسجن ظلما فحسب ولكنه يعانى من التنكيل به فى محبسه. كان ردى أنه على تواضع قلمى وقلة حيلتى. فإن من يتصور أننى لم أتضامن مع أى مظلوم هو أو غيره فإنه يسيئ الظن بى ويبخسنى حقى. وإذ أزعم أن الوقوف إلى جانب المظلومين وإنكار ما حل بهم فرض عين على كل مواطن لم يتلوث ضميره بعد، إلا أن التعبير عن ذلك التضامن له صور شتى. ولدى اقتناع راسخ أن إدانة الظلم وفضحه فى كل مناسبة هى الوسيلة الأنجع فى التضامن مع المظلومين. إذ لست أخفى أننى لا أستريح إلى تجاهل الظلم الذى هو أصل الداء وأس البلاء، والتركيز على أناس بذواتهم، سواء لأنهم نجوم من المشاهير، أو لأنهم من أصدقائنا وجماعتنا. ذلك أن الانتقاء فى هذه الحالة لا يفيد، بل قد يكون ضارا. أولا لأن لدينا أجهزة متشنجة قد تلجأ إلى المعاندة والإيغال فى إيزاء المسجون كرد فعل للضغط الإعلامى عليها. وثانيا لأن من شأن ذلك أن يغيب القضية الأصلية فى ذهن الرأى العام، بحيث يتصور البعض وكأنها مشكلة فرد أو مجموعة أفراد، وليست قضية سلوك سياسى وأمنى تهدر فى ظله كرامات المواطنين وتنتهك حقوقهم. وهناك اعتبار ثالث يؤرقنى طول الوقت. ذلك أن التركيز على الأشخاص المعروفين ودوام الحديث عن معاناتهم قد يكون له تأثيره السلبى على معاناة آلاف السجناء المجهولين الذين يتعرضون للمظالم ذاتها أو لما هو أفدح منها، ولكن أحدا لا يشير إليهم لأنهم ليسوا من المشاهير، وليس لديهم جماعة تدافع عنهم أو أصدقاء وعلاقات تسمح بعرض قضاياهم على الرأى العام. ناهيك عن حجم الوهن والانكسار الذى يعانى منه أهلوهم ممن يصبحون فريسة الإحباط واليأس والحزن لأن المسجونين من أبنائهم صاروا من المنسيين، ولم يعد أحد يأتى على ذكر لهم فى وسائل الإعلام. وهو ما ألمسه فى الخطابات التى أتلقاها من بعض المسجونين والأهالى لدعوتى للإشارة إلى مظلومية كل واحد فيهم، مع ذكر تفاصيل المعاناة والعذابات التى يتعرضون لها.

لا تفوتى فى هذا الصدد الإشارة إلى نزاهة واستقامة بعض النشطاء والحقوقيين الذين لا تفوتهم هذه الملاحظة، إذ رغم أن بياناتهم التى تدعو إلى التضامن مع بعض الشخصيات، فإنهم لا يكفون عن دق الأجراس منبهين إلى شيوع الظلم بين القطاع العريض من المساجين ومنددين بالظاهرة فى كل محفل ومناسبة.

إننى أتفهم جيدا ــ واحترم أيضا ــ أن تتحمس بعض الهيئات والنقابات للدفاع عن أعضائها الذين سجنوا ظلما، وأرى أن ذلك واجب يؤثم من يفرط فيه. لكننى استنكر فى ذات الوقت الخطاب الإعلامى الذى يعمد إلى الانتقاء فى التضامن تبعا للهوى السياسى. وأشم فيه رائحة الدفاع عن الأشخاص وليس عن المبادئ والقيم. وربما رائحة الانحياز إلى طرف والشماتة والتنكيل فى أطراف أخرى.

حين أقرأ ما تتداوله مواقع التواصل الاجتماعى عن معاناة مالك عدلى الصحية والنفسية والجسدية والعائلية، ينتابنى شعور بالحزن والألم جراء ذلك، غير أننى لا أستنكر فقط ما يتعرض له، ولا أتساءل فقط عن الجرم إلى ارتكبه حين انخرط فى صفوف ثوار يناير ودافع عن حق الشباب فى التظاهر أو عن حقوق الفقراء والعمال. وإنما أتساءل أيضا عن عدد الأبرياء من أمثاله الذين ألقوا فى السجون بغير ذنب جنوه، لكنهم منسيون ومحجوبون وراء الشمس، فى سجون الواحات ووادى النطرون والعقرب والعزولى وغير ذلك.

إزاء عموم البلوى، فإننى أصبحت مقتنعا بأن التعاسة درجات. وأن حالة مالك عدلى أقل سوءا من غيرها. على الأقل فإن زوجته وأهله يعرفون أنه حى يرزق، فى حين أن آخرين لم يعودوا يعرفون عن ذويهم شيئا، لا عن مكانهم ولا عما إذا كانوا أحياء أم أمواتا، ونموذج السيدة مها مكاوى التى اختفى زوجها منذ أكثر من سنتين ولم تعثر له على أثر طول تلك المدة، ليس الوحيد الذى يذكر فى هذا الصدد. وهو أيضا أفضل من الذين ماتوا تحت التعذيب، أو الذين قتلوا فى ظروف غامضة، أو الذين أصيبوا بعاهات دائمة أو أمراض مزمنة، أو غيرهم ممن منع عنهم العلاج أو منعوا من رؤية أهاليهم منذ ثلاث سنوات، فضلا عن الألوف الذين سجنوا وصدرت ضدهم أحكام بالغة القسوة، دون أن يعرفوا لماذا سجنوا ولا لماذا حوكموا... إلخ. وتلك خلفية تسوغ لى أن أقول إن ظلمات السجن درجات. فهناك مغمورون منسيون وهناك محظوظون مذكورون. وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء يثقل ضمائرنا بطبيعة الحال. وإذا أبرزت وسائل الإعلام قضية الأخيرين، فإن ذلك لا ينبغى أن ينسينا مظلومية المجهولين، ذلك أن كرب هؤلاء وهؤلاء يظل من كرب الوطن الذى نسأل الله أن يفرجه لكى تختفى مسحة الحزن والكآبة التى غمرت وجه بهية المكدود والمتغضن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved