تحيا جامدة متجمدة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 22 يوليه 2016 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

كثيرة هى الأخطاء اللغوية التى نرتكبها، كثيرة هى أخطاء النحو والصرف التى نقع فيها. ما عاد الأمر قاصرا على التعامل الجائر مع الهمزات ولا على الخلط بين الهاء والتاء المربوطة، ولا على ترك الياء عارية دون نقاط لينطقها كل حسبما يرى ووفقا لما يرتضى الضمير. امتدت السقطات إلى التأنيث والتذكير وما يستتبعهما من إجراءات. سمعت بأذنى امرأة فى مقتبل العمر قبل أسابيع، تواجه آلة التصوير متمتعة بالثقة والثبات، وتشرح سبب خروجها فى إحدى التظاهرات. أعلنت المرأة كما هو متوقع تأييدها للرئيس والنظام وللقرارات الصادرة والقادمة، وكذلك للسياسات المتبعة كافة. اكتنفتها الحماسة الجارفة وعلا صوتها وبدأت فى الهتاف. قالت المرأة بين الشعارات التى رددتها: «تحيا السيسى أم الدنيا».

لم تكن المرة الأولى التى أسمع فيها الفعل «يحيا» منزوعا من السياق ومستخدما فى مثل هذه العبارة المبهرة، وكأنه ممنوع من التعاملات اللغوية جميعها. تعثرت الآونة الأخيرة فى جمل من قبيل «تحيا الشعب»، و«تحيا الرئيس»، و«تحيا الجيش» وأحيانا «تحيا الجنود المصريين». لم يكن تغيير نوع الفاعل فى أى منها دافعا كى يضبط القائل الفعل؛ إذ استمر يأتى مؤنثا وكأنه صار جامدا على هذه الحال، وكأنه سيفقد معناه لو تغير حرف من أحرفه، فانتقلت النقطتان على سبيل المثال من أعلى لأسفل أو فى الاتجاه المعاكس.

***

لا يفوت الرائى والسامع ما لجملة تحيا مصر من حضور كثيف، فقد صارت شعارا للمرحلة الراهنة بعدما راح رئيس الجمهورية الحالى يكررها فى خطبه مرة تلو الأخرى، وفى مكان بعد مكان، وأمام مختلف قطاعات الجماهير، ومنذ أن جعلها ختاما ثابتا لأحاديثه الشيقة، تلقفتها وسائل الإعلام وجعلتها مادة إعلامية لازمة يلوكها المذيعون والمحاورون، كما تلقفها المستمعون والمشاهدون ليعيدوا إنتاجها كلما سمحت الظروف.

ليست الجملة باختراع جديد ولا مستحدث، اختصت به هذه الحقبة من التاريخ دونا عن غيرها، كما أنها ليست حكرا على الأمة المصرية. جرت ألسنة الثوار فى كل مكان وزمان بتحيا مصر وتحيا كل أمة ودولة حاربت فى سبيل حريتها بصورة من الصور. تحيا فرنسا وتحيا إيطاليا، نطقتها شعوب وهتفت بها على تباين الثقافات والمفردات واللكنات. حيت بلدان كثيرة بهتاف مواطنيها وكفاحهم، وتهاوت أخرى حين لم يصحب الأصوات والصرخات فعل عظيم، وحين اقتصر الأمر على كلمات ذهبت أصداؤها مع الريح.

تحولت تحيا مصر خلال السنتين الماضيتين إلى مقطع متكرر فى عديد الأغنيات، وإلى صندوق مكتظ بأموال المواطنين، وإلى شعار مطبوع على عدد لا نهائى من اللافتات التى تزين الشوارع والميادين، وإلى نقش تنوء به مئات وربما آلاف الحوائط والأسوار.
تحولت أيضا إلى مؤشر يمكن من خلاله التمييز بين جموع البشر المتناحرين. تراجعت المعارضة عن ترديد الجملة التى صارت مرتبطة بالرئيس إلى حد بعيد، وتسلمتها جماعات التأييد وصارت تفاخر بها، بل حولتها فى بعض المناسبات إلى أداة من أدوات المكايدة وأحيانا التعريض.

***

للكلمات وقع حين ننطقها، وللعبارات أثر قد يتبدل مع شدة الصوت ونبرته؛ حادة أو رخيمة، هادئة أو متوترة، بطيئة أو سريعة، كما أن للتكرار ذاته فعل السحر. يبدو أن هذه العوامل مجتمعة قد تضافرت لتدخل فى روع عديد البسطاء؛ بسطاء التعليم والفهم وكسالى العقل، أن «تحيا» التى ينطقها الرئيس بصوت خفيض هى مفردة لا يمكن التلاعب بها ولا التعدى عليها بأى شكل من الأشكال، وإلا أوردت العابث معها مورد التهلكة، وجعلته من المجدفين.

يبدو التأنيث المفاجئ والدؤوب للفعل فى مجتمع ذكورى بمثابة أمر عجيب. التاء التى تسعى نساء كثيرات ــ أعرفهن حق المعرفة ــ إلى رفع قيمتها وإعطائها مكانتها المستحقة، حلت أخيرا على الألسنة وتصلبت، لكنها ظلت فى غير موضعها المروم، وربما كان اعتياد الناس على استخدامها مع هذا الفعل تحديدا أحد العوامل التى تفسر صمودها وتحديها لقواعد اللغة وللحدس السليم، فأغلبنا فطر على تحية العلم صغيرا: تحيا جمهورية مصر العربية، وسمع أو قرأ بعض الشعارات البراقة مراهقا أو كبيرا: تحيا الوحدة العربية وتحيا الأمة العربية. لم يكن بين هذه الجمل والعبارات التى طرقت مسامعنا وشكلت جزءا لا بأس به من وعينا، مذكرا تطلب له الحياة بقدر وافر من الإلحاح، ومن ثم ارتبط المعنى بالمنطوق وحده.

***

على كل حال أظن أن شعار «تحيا مصر» قد فقد مهابته بعدما صارت له دلالات ليست من الأولى فى شىء كثير، إذ لم يعد يتعلق بالوطن مجردا من الأهواء والميول، بل ارتبط ارتباطا وثيقا بتوجهات المواطن وبمقدار انتمائه للنظام الحاكم، وإذا ربما تشهد الفترة المقبلة تنويعات أخرى أشد طرافة، على عبارة المرأة التلقائية التى حطمت المألوف. فلتحيا النظام هانئة مستقرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved