أنشودة البرص

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 22 يوليه 2017 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

أتفرس فى وجه الشخص الجالس أمامى على طريقة العرب القدماء، أمعن النظر فى ملامحه وبشرته البيضاء الكالحة وعينيه اللتين تميلان إلى الزرقة وحركة رقبته القصيرة حين يمدها إلى الأمام مبتسما، لكى يهرب من تساؤل يراه يتدحرج على شفاة أحدهم. بالمقاييس الشرقية ألوانه وتفاصيله قد تلقى استحسان الكثيرين، فهى أقرب للشكل الأوروبى، لكن لمن يحب قراءة الوجوه مثلى يظل يبحث له عن شبيه، يربط الظاهر بالباطن، لكى يفهم ما الذى يجعل هذه الشخصية السياسية غير مريحة. وفجأة حينما ابتسمت مجددا تذكرت مشهد مجموعة الأبارص (جمع البرص أو الوزغة بالفصحى) وهى تقف فى هدوء بالقرب من الضوء وتفتح فمها لتلتقط ناموسة طائرة فى الهواء. كان ذلك فى أندونسيا حيث لا يهاجمها أحد، بل يعتبرها السكان كائنا جالبا للحظ، وبالتالى هناك مجال أكبر لتأملها دون مطاردة.
***
إحساس عدم الراحة الذى تشعه هذه الشخصية الجالسة وسط آخرين نابع بالفعل من كونها تشبه البرص شكلا ومضمونا، وقد فضحتها ابتسامتها التى تشبه الحيوان الزاحف حين يصطاد الناموس والحشرات الصغيرة فيفتح فمه ملتهما دون إزعاج، فى حركة لا إرادية. ثم أخذت أتطرق إلى السلوك والحركات، فى هذه الليلة الحارة التى تخرج فيها عادة الأبارص من الشقوق، بجلودها الرقيقة المرقطة، وبعضها قادر على تغيير ألوانه للتمويه مثل الحرباء، فهى تعيش فى بيئات مختلفة من الصحراوية إلى الغابات والجبال، وبعض أنواعها التى يزيد عددها عن السبعمائة تتغذى حول البشر وتألف عالمهم.
كلاهما يمشى على السقف بالمقلوب البرص والسياسى الماثل أمامى، فأبو بريص أفضل متسلق فى العالم. عيناهما الزرقاوان القططية تلمع فى عتمة الليل وتتسع فى الظلام. لا خوف أن يسقط من أعلى، فلديه لبادات امتصاص كأنها وسائد لاصقة تجعله يمشى على الأسطح الناعمة للجدران والنوافذ والمرايا، ولديه أيضا مخالب يستعملها لتسلق الأشجار والمساحات الخشنة، فمثل هذه الكائنات تتحدى الجاذيبة الأرضية. هى حيوانات أيامنا الزاحفة التى يتفاءل البعض بها، ويخافها البعض ظنا أنها تحمل أرواحا شريرة، ويطاردها آخرون أو يشمئزون منها، كما هناك فريق رابع وخامس يجد فى مواجهتهم أو مجاورتهم ألوانا من النشوة واللذة المقترنتان بالرعب والخطر. جميعها يسمح بالعديد من المقارنات وقراءة الوجوه والسلوك.
***
تتشابه قفزات نوع من أنواع أبو بريص، الذى يعرف «بالمجموعة المحلقة» لأنه يستخدم ذيله للتأرجح ما بين الأغصان وكأنه يهبط بمظلة من الطائرة، مع «شقلبظات» نوع من العاملين بالسياسة. صادفت «البرص المحلق» فى الهند حيث لا يعترض طريقه هندوسى ولا يطاله بسوء. أرعبتنى حركاته الأكروباتية المتتالية وغير المتوقعة، كما ترعبنى أحيانا تحركات وتصريحات هذا النوع من السياسيين الذى يزحف على بطنه، خاصة فى مرحلة حرجة كالتى نمر بها فى منطقتنا العربية.
هؤلاء أيضا لديهم القدرة على قطع ذيولهم، إذا لزم الأمر، لكى ينجو بأنفسهم ويظلوا أحياء يرزقون. نقطة تماثل أخرى مع أبو بريص: عملية الانشطار الذاتى أو البتر الذاتى للذيل فى حالة الخطر. يظن الناس أحيانا أن البرص يفقد ذيله لأنه أكثر جزء يحتمل أن يمسك من قبل الحيوانات المفترسة، لكن فى الواقع هو يتخلى عنه لكى يصرف اهتمام من يهاجمه ويهرب، بعدها ينمو له ذيل آخر أو اثنان أو ثلاثة أذيال فى وقت واحد، حسب الظروف. يظل الذيل يتحرك بعد انشطاره، فنتخيل أن أبو بريص قد خسر الجولة، فى حين أنها مجرد خدعة للتغلب على الخصم، يعاود نشاطه بعدها ويجتمع مع أقرانه ليلا ليصدر أصواتا عالية عبر الفم والحنجرة، تجذب الانتباه، وهو ما نجده غالبا فى نوع «التوكى»، فيقال إنه يعزف أنشودة صغيرة يسمونها «أغنية توكى». يغنى علينا فيحرمنا من النوم، مثله مثل بعض العاملين بالسياسة والمتربحين منها، وليس جميعهم بالطبع. أقصد هنا الرجل أو المرأة البرص، فلتفتش عنهما. وتذكر أن أبو بريص أفضل متسلق فى العالم، فلا يخدعك غناؤه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved