دروس من الأرجنتين فى مكافحة العنف ضد النساء

رابحة سيف علام
رابحة سيف علام

آخر تحديث: الإثنين 22 يوليه 2019 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

طالعت بحزن شديد أخبار الفتاة الشجاعة التى قامت بقتل شاب حاول اغتصابها إذ دافعت عن نفسها وخطفت السكين الذى كان يهددها به وطعنته حتى القتل، ثم توجهت بنفسها إلى قسم الشرطة للتبليغ عن الواقعة وتسليم نفسها للعدالة. وإذ كانت تبحث لنفسها عن العدالة، تم احتجازها على ذمة التحقيقات على الرغم من اتجاه جميع التحريات إلى صحة روايتها للواقعة وتورط الشاب المقتول مع صديقين آخرين، كما أوضحا باعترافاتهما، فى استدراجها بهدف اغتصابها. الغصة التى تتردد فى صدور كل من تابع هذه القصة تأتى من كون هذه الفتاة الشجاعة ذات الخمسة عشر سنة سليمة الفطرة أقدمت على الدفاع عن نفسها بشجاعة وهى تتخيل أن المجتمع سيقوم بدعمها وتفهم أنها نجت لتوها من جريمة بشعة ولم يكن لديها أى خيار آخر سوى قتل المعتدى عليها لكى تنجو بنفسها. ولعل أكبر دليل على سلامة فطرتها أنها لجأت للدولة ــ ممثلة فى قسم الشرطة ــ وقامت طواعية بتسليم نفسها، وقامت الدولة بالفعل باحتجازها لحين استكمال التحقيقات، ومن أجل حمايتها من أهل القتيل الذين يعتبرونه ضحية على الرغم من أنه كان بصدد ارتكاب جريمة شنيعة.
لعل هذه الواقعة تكشف عن عدد كبير من الرسائل المربكة التى يحملها المجتمع والدولة للنساء والفتيات اليافعات، هل يقاومن العنف ضدهن ببسالة ويصبحن بنظر العدالة جانيات لابد من احتجازهن أم لا؟ هل لا توجد أى طريقة أخرى لتوفير الحماية لهن بعد واقعة كهذه إلا باحتجازهن فى مكان الجناة؟ كيف لا يتم الالتفات لهن لتقديم الدعم الصحى والنفسى بعد النجاة من هذه الواقعة الخطيرة؟
***
فى واقعة مشابهة ولكن بنهاية مختلفة، تعرضت فتاة أرجنتينية تدعى ميكايلا جارسيا تبلغ من العمر 21 عاما للخطف والاغتصاب والقتل فى عام 2017 فى بلدة على بعد نحو 180 كم من العاصمة بيونس أيريس. وقد اهتز الوجدان الشعبى فى البلاد وألهم الكثيرين للتضامن معها، خاصة بعد تبين أن القاتل المعتدى كان مسجونا فى قضية مشابهة بعد اغتصاب فتاتين ولكنه قد حصل على إطلاق سراح مشروط بعد انتهاء نصف مدة عقوبته. كشفت هذه الجريمة عن ثغرة كبيرة فى منظومة العدالة فيما يخص حماية النساء من العنف المبنى على النوع، الأمر الذى ألهم الكثير من الفاعليات المجتمعية لمناشدة الدولة للتحرك من أجل سد هذه الثغرة واستعادة ثقة النساء فى منظومة العدالة. وبالفعل استجابت الدولة بشكل متكامل لهذه الدعوات المجتمعية المتتالية وبدأت بالتحرك فى أكثر من اتجاه من أجل دعم شعور النساء بالأمان ضمن مجتمعهن وشحذ هممهن للمشاركة المجتمعية الفعالة دون الخوف من العنف الموجه ضد النساء.
***
أولى الخطوات التى تم اتخاذها فى هذا الإطار، كانت ضمن وزارة العدل التى تولت إعادة تخطيط وترتيب أولويات نظام العدالة ككل لضمان حصول النساء والفتيات الناجيات من العنف المبنى على النوع على العدالة الكاملة. حيث تم اقتراح مراجعة القانون الجنائى لإدخال تعديلات تغلظ عقوبة مرتكبى العنف ضد النساء، ومراجعة قانون الأسرة لضمان أن الزوجة التى تتعرض لعنف جسدى من جانب زوجها يحق لها الانفصال عنه مع الحصول على كامل حقوقها المادية لها ولأطفالها فضلا عن حق حضانة الأطفال. كما تضمنت هذه التعديلات حصول النساء المعنفات على دعم كامل فيما يتعلق بالسكن البديل والرعاية الصحية التالية على التعرض للعنف وتوفير محام مدرب بشكل جيد لتولى قضاياهن أمام المحاكم. وقد شملت المراجعة قانون إجراءات التقاضى ليضمن حق المرأة التى تعرضت للعنف فى التوجه إلى المحكمة الأقرب لمكان سكنها الجديد وليس للمحكمة الأقرب لمحل وقوع الجريمة، وذلك فى محاولة لحماية المرأة الناجية من العودة إلى نفس المقاطعة التى تعرضت فيها للعنف. فيما تضمنت هذه المراجعة تولى دوائر قضائية متخصصة فى قضايا النساء الناجيات من العنف المنزلى بشكل متكامل من حيث رفع دعوى بسبب العنف ودعوى الانفصال ودعوى الحقوق المادية وحضانة الأطفال، بشكل مجمع فى مكان واحد لتفادى إرهاق النساء الناجيات من العنف فى إجراءات معقدة ومتوازية فى التقاضى.
كما تولت وزارة العدل الأرجنتينية إقامة برنامج تدريب مفصل للمحامين فى 12 مقاطعة عبر البلاد لإكسابهم المعرفة والمهارات اللازمة من أجل التقاضى والدفاع عن النساء ضحايا العنف الجنسى والعنف المنزلى والاستفادة من التسهيلات والإجراءات الجديدة التى تمت فى منظومة العدالة من أجل هذه الغاية. وهى الحاجة الملحة التى فرضها الواقع، حيث عادة ما كان يقوم مرتكبو العنف ضد النساء بتوكيل محامين أكفاء، مما يساعدهم على الإفلات من العقاب، فى حين أن النساء المعنفات لا يجدن محامين بنفس الكفاءة. ولذا اهتمت وزارة العدل بتنظيم برنامج تدريب شامل حول كيفية التقاضى والدفاع فى قضايا العنف ضد النساء. وفى هذا الإطار كان التعاون وثيقا بين وزارة العدل من جهة والمعهد الوطنى للمرأة من جهة ثانية، من أجل إدارة تدريب المحامين وربط المحامين الحاصلين على التدريب اللازم بحالات النساء المعنفات التى تتوجه للشكوى إلى المعهد الوطنى للمرأة تمهيدا لرفع دعوى قضائية على الجانى، فضلا عن توفير الرعاية الصحية والنفسية اللازمة للنساء المعنفات بعد واقعة العنف والاهتمام بالرعاية النفسية لأطفالهن خلال عملية التقاضى.
وقد امتد هذا التنسيق بين وزارة العدل والمعهد القومى للمرأة بالأرجنتين ليشمل أيضا ما سُمى بقافلة «مستشفى الحقوق» التى تجوب عدة مدن وبلدات وتتكون من فريق متخصص من قانونيين ومحامين ومختصين بالدعم النفسى والصحى ومختصين بحل النزاعات والوساطة. حيث تقوم مستشفى الحقوق تلك بالتنسيق مع السلطات المحلية بزيارة النساء فى القرى والبلدات المختلفة من أجل تقديم الدعم القانونى الأولى ورفع مستوى الوعى لدى النساء بحقوقهن والاستماع لشكواهن بشأن العنف المحتمل الذى يتعرضن له. وتتواصل هذه القافلة أيضا مع وجهاء المجتمعات المحلية من أجل رفع وعيهم بحالات العنف ضد النساء وتدريبهم على أساليب حل النزاعات الأسرية بشكل مبكر ووقائى، وأيضا على الوساطة المجتمعية فى شئون الأسرة بما يمنع من تفاقم الأمر إلى حالات عنف منزلى خطيرة تؤدى إلى الإيذاء الجسدى أو القتل بحق النساء.
وقد تقاطعت هذه الجهود مع جهود مماثلة للشرطة على المستويين المحلى والوطنى. حيث أقامت شرطة العاصمة بيونس أيريس على سبيل المثال نحو 138 قسما للشرطة النسائية المتخصصة فقط فى تلقى شكاوى العنف ضد النساء، بتعداد شرطى يصل إلى 2300 شُرطية ومعاونة شرطة. حيث ينقسم قسم الشرطة النسائى إلى عدة أقسام منها ما يتولى تلقى الشكاوى وتحرير المحاضر ومنها ما يتولى تقديم الدعم النفسى والصحى للنساء المعنفات بواسطة مختصين ومنها ما يتولى أيضا رعاية أطفال المرأة المعنفة لحين استكمالها تقديم الشكوى. كما تنشط الشرطة النسائية أيضا فى العمل الوقائى من خلال حملات التوعية بالمدارس والكنائس والتجمعات الشعبية للتأكيد على أن العنف ضد النساء جريمة تستوجب العقاب المشدد.
وهو ما يعكس تضافر جهود منظومة حماية النساء عبر المؤسسات المختلفة للدولة سواء كانت وزارة العدل أو وزارة الأمن (الشرطة) أو المعهد القومى للمرأة الذى يقدم الدعم الفنى والتدريب اللازم لكافة هذه المؤسسات الضالعة فى تقديم العدالة للمرأة. ولعل هذه الجهود كلها كانت تسعى إلى تعزيز العدالة للنساء المعنفات ورفع درجة ثقة النساء فى نظام العدالة الوطنى، وتشجيعهن على اللجوء للعدالة وعدم الخوف من التبليغ عن المعتدين عليهن. وذلك فى ظل ارتفاع معدلات العنف ضد المرأة فى الأرجنتين والتى تبلغ وفق إحصاءات وطنية «جريمة قتل ضد امرأة كل 32 ساعة»، كما يتعرض نحو ثلث النساء لعنف جسدى من جانب أزواجهن سنويا. حيث سجل الخط الساخن لتلقى شكاوى العنف ضد المرأة نحو 3678 مكالمة استغاثة سنويا منذ تشغيله عام 2014.
***
ولذا لم يكن من المصادفة أن تتكلل كل هذه الجهود بصدور قانون ميكايلا لعام 2018 الذى يفرض على جميع مؤسسات الدولة سواء التنفيذية أو التشريعية أو القضائية إلزام جميع موظفيها ومنتسبيها بالحصول على تدريب شامل فى شأن العنف ضد النساء وسبل الوقاية منه. ولعل خصوصية هذا القانون تكمن فى كونه قد اعتبر أن موظفى الدولة لهم دور مهم فى ريادة المجتمع بما يفرض عليهم مهمة راقية ونبيلة تستدعى إشراكهم بشكل فعال فى مكافحة جميع أوجه التمييز والعنف الموجه ضد النساء.
دروس الأرجنتين فى مكافحة العنف ضد النساء كثيرة ومتعددة، علنا نستفيد من بعضها كى نرسل رسالة تطمين إلى كل فتاة أو إمرأة مصرية بأنها لن تندم أبدا إذا قررت اللجوء إلى الدولة لطلب الحماية لأن دولتها لن تخذلها أبدا.
باحثة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
الاقتباس
لعل خصوصية هذا القانون تكمن فى كونه قد اعتبر أن موظفى الدولة لهم دور مهم فى ريادة المجتمع بما يفرض عليهم مهمة راقية ونبيلة تستدعى إشراكهم بشكل فعال فى مكافحة جميع أوجه التمييز والعنف الموجه ضد النساء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved