رسالة أحمد حسن الزيات

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الخميس 22 يوليه 2021 - 9:23 م بتوقيت القاهرة

فى يوم 15 يناير عام 1933 أشرقت شمس ساطعة فى سماء مصر بصدور العدد الأول من مجلة «الرسالة» الأسبوعية التى استمرت فى الصدور حتى توقفت بصدور عددها الأخير فى 23 فبراير عام 1953، أى لمدة عشرين سنة صدر خلالها 1025 عددا وكان لاستمراريتها خلال هذه المدة الطويلة والقيمة الأدبية المنشور فيها أثر كبير على الساحة الصحفية والإعلامية فى مصر بل وفى العالم العربى والإسلامى.

ولدت «الرسالة» على يد الأديب والمثقف الكبير أحمد حسن الزيات من مقرها الواقع فى 81 شارع السلطان حسين بعابدين. ولد أحمد حسن الزيات يوم 2 أبريل 1885 فى قرية كفر الدميرة القديم بالدقهلية، ومثل أبناء جيله حفظ القرآن بكتاب القرية ثم التحق بالأزهر لكنه انتقل منه إلى الجامعة الأهلية الجديدة التى صارت جامعة القاهرة وحصل على ليسانس الحقوق وبعدها اختارته الجامعة الأمريكية بالقاهرة رئيسا للقسم العربى بها.
وكان الزيات وطنيا مؤمنا بالقضية الوطنية مناضلا من أجل استقلال مصر وكان يصيغ المنشورات السرية التى تصدرها الجمعية التنفيذية للطلبة أثناء ثورة 1919، وكان من ضمن ما كتبه أثناء الثورة «إن اللغة التى يفهمها طغام الاستعمار جعل الله حروفها من حديد، وكلماتها من نار، فدعوا الشعب يا أولياء أمره يعبّر للعدو عن غضبه بهذه اللغة، وإياكم أن تقيموا السدود فى وجه السيل، أو تضعوا القيود فى رِجل الأسد».
وفى سنة 1929 اختارته كلية المعلمين العليا فى بغداد أستاذا وظل هناك حتى عاد إلى مصر سنة 1933 بعد أن حقق شهرة وتقديرا على مستوى العالم العربى، فاختير عضوا بالمجمع اللغوى فى مصر وعضوا بالمجلس العلمى فى دمشق.
•••
وفى مصر تفرغ تماما لمجلة «الرسالة» والإبداع الأدبى وابتعد عن السياسة ومناوراتها، فلم ينضم أبدا إلى حزب سياسى وكان اختياره اسم «الرسالة» لمجلته تنويها عن الغرض منها وأهدافها وكتب فى افتتاحية العدد الأول: «إن غاية «الرسالة» أن تقاوم طغيان السياسة بصقل الطبع، وبهْرجَ الأدب بتثقيف الذوق، وحيرة الأمة بتوضيح الطريق. أما مبدأ «الرسالة» فربط القديم بالحديث ووصل الشرق بالغرب».
وحرص الزيات أن تكون العربية الفصحى فى أبهى صورها لغة المجلة، وفتح صفحاتها لفحول الثقافة والأدب والفكر فى عصره. فزانت صفحاتها أقلام طه حسين والعقاد وزكى نجيب محمود وأحمد أمين ومصطفى عبدالرازق ومحمد فريد أبو حديد وأحمد زكى باشا ومحمود شاكر وأبوقاسم الشابى.
وعملت المجلة على تكريس الوطنية المصرية والقومية العربية والإسلامية دون عصبية شوفينية، فعملت على نقل إيجابيات الحضارة الغربية واستعراض ما حققته فى المجال العلمى والسياسى والاجتماعى للاستفادة منها مع الاحتفاظ بالهوية الشرقية والاعتزاز بها وعدم فقدان الثقة بها. ولأنها تخاطب العربى والمسلم والشرقى انتشر توزيعها فى الدول العربية والإسلامية.
•••
ولعل الشباب من الأجيال الحالية لا يقدر قيمة الإنجاز الذى حققته «الرسالة» فى الحفاظ على الهوية المصرية بمقوماتها والاعتزاز بها ولا حجم التحدى الذى واجهته، فهى مجلة صدرت لمخاطبة صفوة المتعلمين فى مصر وهى شريحة شكلها إلى حد بعيد، فى توقيت صدور الرسالة، منظومة تعليمية وضعها دوجلاس دنلوب الذى وضعه الاحتلال البريطانى على رأس النظام التعليمى فى مصر وهو القائل «لابد من إزالة القرآن والإسلام من ذهن العربى لنرتقى به إلى العالم المتحضر»، والذى بذل جهدا كبيرا مدعوما من سلطات الاحتلال لتغريب التلميذ المصرى عن محيطه الشرقى. ولا يمكن إغفال أثر المدرسين والأساتذة الأوروبيين الذين جلبوا إلى مصر والمدارس الأوروبية التى كانت لها دور كبير فى تشكيل التلاميذ. ومما يذكر أن سعيد باشا والى مصر كان يقدم دعما ماليا ضخما لمدارس الفرير والمدارس الإيطالية فى وقت أوقف فيه الإنفاق على المدارس الحكومية المصرية. فضلا عن أثر من عادوا من البعثات إلى أوروبا وانبهارهم بما شاهدوه.

من المؤكد أن أثر الاحتكاك بأوروبا والأوروبيين كان له أثر إيجابى خاصة بعد انعزال مصر وشعبها لسنين طويلة عن التطورات التى تحدث فى العالم، إلا أن الشطط كان بسبب دعم الدولة والسلطة للأجنبى على حساب الوطنى حتى إن حاكم مصر كان يقول إنه يسعى لأن يجعل مصر قطعة من أوروبا ويصف كل ما هو فى نظره فج وقبيح بأنه «بلدى»!.
ظهر فى هذا الوقت رموز أدبية وثقافية وفكرية مثل أحمد لطفى السيد ومحمد حسين هيكل وحسين فوزى وطه حسين. ورغم قيمتهم الثقافية الكبيرة، إلا أنهم كانوا يروجون إلى أن مصر تنتمى حضاريا لحوض البحر المتوسط وعليها أن تنأى بنفسها عن العالم العربى والشرقى. بلغ الشطط مداه فى جلسة المجمع اللغوى المصرى يوم 3 مايو 1943 عندما قدم عضو المجمع عبدالعزيز فهمى باشا اقتراحا بكتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية وباستخدام اللغة العامية بدلا عن الفصحى، وهو اقتراح رفضه المجمع بالإجماع إلا أنه ترك تأثيره على شخصيات حبذت هذا التوجه منهم الدكتور لويس عوض وسلامة موسى الذى بلغه فى شططه إلى أبعد مدى.
•••
ما أشبه اليوم بالأمس. عادت المدارس والجامعات الأوروبية والأمريكية تشكل هوية التلاميذ والطلاب وصارت إمكاناتها وقدراتها أكبر من قدرة المؤسسات التعليمية المصرية؛ مدارس لا تدرس اللغة العربية والدين والتاريخ والتربية الوطنية وإن درسته فيكون شكليا. وأسر ترسل أولادها وبناتها إلى مدارس وجامعات فى أوروبا وأصبح التخاطب فى وسائل التواصل الاجتماعى بكتابة اللغة العامية بالحروف اللاتينية، وهجن الشباب حديثهم بكلمات أجنبية. وما زاد الأمر ضغثا على إبالة هو غزو الفضائيات التى اقتحمت خصوصيات البيوت مدعومة بالإنترنت والفيسبوك وغيرها بتجاوز حق الأسرة فى الرقابة على أولادها. التحدى صار أكبر والصراع على الهوية بات أكثر ضراوة ولابد أن السيد دنلوب بات يطل من العالم الآخر وهو يفرك يديه فرحا بانتصاره الذى حققه بعد أن ترك منصبه بمائة عام.

الصراع على الهوية المصرية بات متأججا بين قطاع سلفى موغل فى الانغلاق على الماضى رافضا التفاعل مع الحاضر لبناء المستقبل وقطاع يرفض التراث والهوية والتاريخ ويتمسح فى الحضارة الغربية ويرى فيها الحداثة والتقدم دون غيرها متمسكا بالعولمة دون تفرقة بين العولمة الحميدة التى تثقل العلم والثقافة والإدارة والفن الراقى وبين العولمة العربيدة التى تنقل الإلحاد والفجور والشذوذ والعرى.
ما أحوجنا اليوم إلى منابر إعلامية واعية تدرك أن الإعلام رسالة للتنوير والوعى وتشكيل العقل والهوية وليست وسيلة لمجرد نقل الأخبار مهما بلغ هزلها وهزالها وتقيس نجاحها بما حققته من تنوير للعقول لا بقدر ما اجتذبته من إعلانات هزيلة.
رحم الله أحمد حسن الزيات ورسالته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved