مصطفى أمين والسرساوى والعبدلله

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: السبت 22 أغسطس 2015 - 9:25 ص بتوقيت القاهرة

- اليوم لا نجد نموذجا للتسامح وأصبحنا جميعا هواة فى حرمان أنفسنا وبلادنا من كل خير

• كنت ومازلت معجبا بأداء أحد مأمورى سجن استقبال طرة فى بداية الثمانينيات وهو اللواء/ محسن السرساوى وهو متقاعد منذ أكثر من 15 عاما.

• كان السرساوى رجلا عاقلا حكيما صاحب خبرة فى السجون.. إذ عمل ضابطا فى السجون السياسية فترة طويلة.. وكانت فلسفته دائما «أن السجين أمانة فى عنقه ولا شأن له بآرائه السياسية وأنه ضد التنكيل به أو تعذيبه أو منعه حقوقه وكان يحب الحلول الوسط».. وعرف الجميع قيمته بعد ما حل مكانه نائبه الذى كان يسب الدين مع شتائم نابية أخرى صباح مساء للضباط والشاويشية فضلا عن السجناء.. وإذا لعب الكرة مع الضباط وهزم فريقه فيها وضع السجناء من فريقه فى التأديب.. وظل يشتم الضباط والأمناء.. وكان يمزح معهم بحركات فى منتهى الإسفاف وكان هذا دأبه طوال خدمته.

• كنت مع اللواء السرساوى فى تفاهم دائم وكان كل منا يأنس فى الآخر الواقعية والحكمة فى معالجة الأمور.. وكان يقول لى: أنا أستريح حينما تتعامل معى نيابة عن الباقين.. فأرد عليه بأنه رجل حكيم لا يحمل أحقادا لأحد.. وكان يقول لى: لست مسئولا عن أى خروقات حدثت فى سجنى قبل أن أستلمه عمليا وواقعيا من جهات التحقيق ولا تحملونى ذنب غيرى.

• وكان يقول لى: أمنيتى أن تتعلم الحركة الإسلامية من نموذج أ/ مصطفى أمين «وكان حيا وقتها».

• قلت له: كيف ذلك ؟!
• قال: معكم شباب طائش كثير مشحون بالعداوات وفترة التعذيب الأولى ومحتقن جدا ويريد تحميل إدارة السجن كل الغضب والحنق الذى يعتمل فى نفسه جراء القبض عليه أو القسوة عليه أو تعذيبه فى التحقيقات.. وينفس ذلك فى شاويشية السجن الذين لا ناقة لهم ولا جمل.. ويصطنعون المشكلة تلو الأخرى معهم.

• وكلما جاءنى شاويش أو ضابط يشكو إلى من ذلك أقول لهم: هؤلاء شبان صغار السن قليلو الخبرة وعندهم كبت شديد من حبسهم وبعضهم سجن ظلما ولا يجدون من يفرغون شحنة غضبهم فيهم إلا نحن الذين فى مواجهتهم الآن.

• قلت له: وماذا كان يفعل مصطفى أمين؟!
• قال: أنت تعلم أن مصطفى أمين عذب تعذيبا شديدا حتى طال مناطق حساسة من جسده.. ورغم ذلك كنت أجلس معه كل يوم وأنا نقيب لأتعلم منه صفاء النفس وحب العفو ولم أسمعه يوما راغبا فى الثأر من أحد أو يحمل ضغينة لأحد.. أو شامتا فى خصومه الذين ألقوه فى السجن.. وكان يختلف عن شباب الحركة الإسلامية الذى أراه اليوم «يقصد الثمانينات» فقد كان يدخل زنزانته قبل موعد غلقها بنصف ساعة ويغلق الباب على نفسه ولما سألته عن ذلك؟!
• قال: أنا أفعل ذلك احتراما لنفسى وحتى لا أترك فرصة لأى شاويش أن يتطاول على أو يحتك بى أو يحرج منى.

• والآن انظر إلى بعض الشباب معكم بعد فتح السجن «يذيقنا المرار» أثناء الدخول إلى الزنزانة أو الذهاب إلى جلسات المحكمة.. ورغم ذلك أنا أوصى الجميع بالصبر والحلم وأدرك أن الزمن جزء من العلاج.. وأنهم سيكبرون وتنضج عقولهم ومعارفهم وخبراتهم ويدركون قيمة فتح السجن بعد فترة التعذيب والإغلاق.. وأننا فقط أمناء عليهم فى هذه الفترة حتى يخرجوا.. ولسنا فى خصومة معهم.

• وكان وزير الداخلية وقتها يقدر آراء العميد/ السرساوى رغم صغر رتبته بالنسبة لمن حوله لأنه كان يعرف سعة عقله ونظافة يده.

• تفكرت طويلا فى أثناء سجنى فى نموذج المرحوم مصطفى أمين وحدثت تلاميذى كثيرا عنه.. قلت لهم مرارا: هذا الرجل كان قبل سجنه يهتم كثيرا بالفن والفنانين والسينما وغيرها من أمور الدنيا.. ثم سجن وعذب تعذيبا شديدا وظل فى السجن متأملا متفكرا.. ثم خرج ليكون من أعظم المبدعين فى صنع الخير.. فهو لا يصنع الخير كفرد ولكن يبدع فى صناعته كمؤسسة ثابتة.. فهو الذى أبدع مشروع «أسبوع الشفاء» والذى كان يعالج المرضى بالمجان فى أرقى المستشفيات.. وعلى أيدى أفضل الأطباء.

• وأبدع المشروع العظيم «لست وحدك» والذى كان رائدا فى مساعدة الفقراء وحل مشاكلهم.

• وأبدع أعظم مشروعاته «ليلة القدر» والتى تتسلم اليتيم وعمره يوم واحد وتكفله وترعاه حتى يتخرج من الجامعة ثم تسعى لإيجاد عمل شريف ومناسب له.

• وقد كانت وصية الراحل «مصطفى أمين» قبل وفاته لزوجته «أوصيك بمشروع ليلة القدر».

• لقد كنت ومازلت معجبا بنموذجين لصنع الخير والعمل الاجتماعى فى الصحافة المصرية وهما «مصطفى أمين وعبدالوهاب مطاوع».. وكلاهما كان يحمل قلما حرا وقلبا نظيفا وحبا للناس وحدبا عليهم.

• وكنت أقول لتلاميذى: أتمنى أن أسلك نفس المسلك الاجتماعى الإنسانى الذى سار عليه المرحوم مصطفى أمين «فالراحمون يرحمهم الرحمن»، كما نص الحديث الشريف.. ومن يرحم الناس ويعفو عنهم ويتجاوز عنهم سيقول له الله يوم القيامة « أنا أحق بالتجاوز منك قد تجاوزت عنك».. كما تجاوز عن الرجل الذى لم يعمل خيرا قط فأوقفه الله بين يديه وسأله وهو أعلم به.. فقال: ليس لى حسنة سوى أنى كنت أداين الناس فأقول لغلمانى «أى محاسبى شركته» أنظر المعسر وتجاوز.. عسى الله أن يتجاوز عنا».

• وكان هناك تقليد جيد فى السجون هو شراء كل ما يحتاجه السجين من طعام ودواء وكتب وصحف من الأمانات كل يوم عن طريق شاويش.. فيشترى السجناء ما يحتاجون من أماناتهم فى خزينة السجون.. مقابل 20 % ربحا للضباط تقسم عليهم.

• وقد شهدت فى بعض الأشهر أن بعض الضباط كان نصيبه من الكافتيريا والكانتين أربعة آلاف جنيه بالإضافة لمرتبه.. بهذا يستفيد الطرفان دون إخلال بالأمن ولا بحقوق الإنسان.

• واليوم لا نجد نموذجا للتسامح مثل مصطفى أمين ولا نجد نموذجا للفهم مثل السرساوى.

• إننا جميعا هواة فى حرمان أنفسنا وبلادنا من كل خير والتضييق على أنفسنا وبلادنا والآخرين ومعاقبة الجميع بذنب آخرين.. رحم الله الجميع.. وهدى الجميع إلى الخير والحق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved