موتك ممنوع.. إلا اذا…

مواقع عربية
مواقع عربية

آخر تحديث: الخميس 22 أغسطس 2019 - 11:00 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع على الطريق مقالًا للكاتب «نصرى الصايغ» نعرض منه ما يلى:
هناك خطأ فادح: الموت ليس عادلا. تمييز عنصرى بين ميت وميت. لا مساواة البتة بين الراحلين. من حظ المؤمنين أن يجدوا أرضا تحضن أجسادهم. الباقون، تسرقهم الطوائف، وتسجنهم فى موت مسروق.
هذا النص لا ينتمى إلى الشعر. إنه واقع وعادى جدا: الأموات فى لبنان لا يتساوون. التفاوت فى الحياة صارخ وجارح. والمفترض، عادة، أن يتساوى الأموات. حق الإنسان فى لبنان أن يُدفن. إلا أن هذا الحق لا يسرى على عدد وافر من الطيبين الوافدين إلينا من بلاد بعيدة.
حدث ذات حقبة، أن توجهت مجموعات للتخصص فى دول المعسكر الاشتراكى. البعض حاز على التخصص وعاد، والبعض حاز على شهادة جامعية وشهادة زواج وعاد. سكن وأنجب وربى إلى أن دخل العمر فى مرحلة الاستعداد للغياب. بعض الأزواج، ليسوا من دين واحد. معظم الزوجات مسيحيات، وبعض الأزواج ليسوا كذلك. فأين تُدفن المرأة الأجنبية التى لا تنتمى إلى دين زوجها؟
نعم، أين تدفن؟
إعادتها جثة إلى بلادها، مستحيل. أهلها ماتوا، وإخوتها شاخوا، ولا أحد من أقاربها يتذكرها. لقد أمضت حياتها هنا فى لبنان. غير مسموح أن تدفن فى مقابر المسلمين، سنة وشيعة ودروزا. هناك مشكلة مستعصية. المطلوب حفرة صغيرة فقط… ممنوع. الدين أو التقليد أو ضيق الاجتهاد، يفرض على الميت، أن يسافر إلى حيث لا أحد… لا أحد البتة.
والآخرون الذين اختاروا أن يكونوا خارج طوائفهم، إما لقلة إيمانهم أو ضعف التزامهم أو لإلحادهم. هؤلاء، وليسوا قلة، يفضلون ألا تنتهى حياتهم، بعودة قسرية، إلى تقاليد الوفاة، وفق المنطوق الدينى، الطائفى والمذهبى… هؤلاء. تحرروا من التقليد، وعاشوا حياتهم خارج الواجبات الدينية والإيمانية، ويرغبون فى أن يختموها، خارج مراسم الدفن الدينية… هم أحرار. فليحاسبهم ربهم، إن كان يهتم بهذا التفصيل الدنيوى.
مشكلة بحاجة إلى حل. الطوائف والمذاهب واضحة. تفتقت عبقرية هؤلاء المحرومون من الموت الصادق، عن فكرة بسيطة: لا بد من إيجاد أرض محايدة، لا دين لها ولا طائفة لدفن موتاهم. أو ليندفنوا هم فيها، كونهم يلتقون كمرفوضين أجانب، أو رافضين للتقليد الدينى.
سعى هؤلاء بكل جدية. بحثوا عن أرض محايدة. وجدوها. كانت خلاصا لمشكلة الزوجات الأجنبيات، وحلا لمن أمضى حياته بعيدا عن الإيمان والتقليد الدينى. ولما وجدت الأرض، ووضعت خريطة لمقبرة متعددة الصيغ، يصار فيها إلى تكريس تقليد صادق وأمين، تحترم فيه إرادة الميت، ولا تختصر بالتقليد السائد… لما صار كل ذلك كذلك، اجتمعوا، أو اجتمعنا لأنى واحد منهم، فى مطعم جبلى، وشربنا نخبنا ورفعنا كأس موتنا الجميل. موتنا المتحرر من التقليد الإلزامى المناقض لرغبة بعض الراحلين إلى نهايتهم… كان الأمر جديدا، أن نرفع الأنخاب لموتنا، أمر متناقض مع مبدأ الحياة… كان ذلك الكأس نخبا لصحوة ومشروع وصدق وتصالح، مع كل واحد، مع موته المتحرر من التقليد.
وبدأ العمل الإنشائى فى ورشة المقبرة. كل شىء على ما يرام.
بعد أيام من التفاؤل البناء، وردنا الخبر التالى: لقد تم جرف المقبرة بكاملها. ممنوع أن تموتوا خارج طوائفكم.
صح. النظام الطائفى توتاليتارى واستبدادى ومتحكم بحياتك وموتك. ممنوع أن نموت إلا على يدى رجل دين، ويُصار إلى تأبينك بكلام لا يمت لحياتك، ويصلح لكل ميت آخر، حيث ترصف الجمل الركيكة، والمبتذلة والعادية وغير المطابقة للميت... إلخ
نصحو فيما بعد، على هشاشة وضعك، وعلى صلابة ومتعة الطوائف والمذاهب، وعلى شراستها كذلك. ممنوع أن تشطب طائفتك عن بطاقة هويتك. ممنوع أن تتزوج على هواك. رجل الدين حارس لمصالح الله والطائفة. ممنوع أن تدفن... ممنوع أن... ممنوع دائما. أنت من الطائفة وإلى الطائفة تعود، غصبا عنك، حتى ولو كنت ملحدا.
تقول الأغنية: لبنان يا قطعة سما.
كفى كذبا. لبنان فى الدرك الأسفل إنسانيا وحقوقيا ومدنيا وبيئيا واقتصاديا وقضائيا وجامعيا وعفافا، ونقاء، و… ولا يصح فيه إلا الغلط والفضيحة ونجاسة الكف.
ولبنان السياسى، نسخة أمينة، لمثالب الطوائفيات.
أخيرا، عاد الفريق الخارج على الطائفية، يبحث عن قطعة أرض، تستقبل موته، بلا واسطة أحد. لم يجد. ولن يجد.
لبنان هذا، منيع جدا. يقبض على أحيائه، ويأسر أمواته.
فيا ألله، ما هذا البلد؟
اسمع جيدا. أنت تراب وإلى التراب تعود. بعد ترخيص من أصحاب المقامات الطائفية. وحدك، لا وجود لك.
أنت ممنوع أن تموت خارج طائفتك ولو كنت ملحدا وكافرا وزنديقا. كن ما شئت. مآلك أخيرا أن تموت طائفيا لا يقبل موتك أبدا.
إذا، أنت طائفى غصبا عنك، من المهد إلى اللحد.
النص الأصلى:من هنا

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved