جنة ونار

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 22 سبتمبر 2012 - 8:45 ص بتوقيت القاهرة

بعيدا عن منطقتنا العربية التى قررت فى معظمها تعويض ما فاتها من ممارسة الحق فى الإضراب والاحتجاج لزمن طويل، وتحديدا فى بلاد الأندلس حيث الأزمة الاقتصادية الطاحنة انتشرت لافتات «للبيع» على المبانى لتعلن أن هناك من عجز عن سداد أقساط أو لم يعد فى مقدوره الحفاظ على ممتلكاته. ولكن الحياة تسير وفقا لإيقاعها المعتاد: رقص وغناء ومطاعم ورغبة فى الاستمتاع والاحتفاء المكثف بحلاوة الدنيا... وصول  نسبة البطالة فى إسبانيا إلى 24.6 فى المائة ــ بحسب إحصائيات شهر يوليو الماضى ــ ووجود حوالى  5.7 مليون شخص بدون عمل.

 

لم يمنعا المغنين الجائلين من إضفاء البهجة على الشوارع والمرح مع الزوار، فصناعة السياحة هى «ذهب البلاد الأسود» وملاذها الأخير.. وعلى رأس صناع البهجة هؤلاء يأتى بالطبع، بيبيتو الكرينيوزو (Pepito el Carinoso)، أحد أشهر وجوه مدينة مالاجا (أو مالقه التى أسسها الفينيقيون فى العام 1000 ق.م. واسمها فى الغالب مشتق من كلمة ملح بالفينيقية، إذ كانت الأسماك تملح على شواطئها).

 

●●●

 

يضرب بيبيتو الأرض بأقدامه، وقد تجاوز عمره الثمانين، ليرقص ويغنى الفلامنكو بصوت جهورى ــ عميق.. يجوب الشوارع ليضيف إلى سحرها جاذبية أخرى لا تضاهى.. يسكب فيها من روحه سحر البشر. ونظل ننسج من حوله الحكايات: هل من قبيل المصادفة أن يحمل اسم أحد أبرز مصارعى الثيران هناك الذى عرف ببيبيتو دى مالاجا (Pepito de Malaga)؟ هل كان مصارعا فى مرحلة أخرى.. فى حياة أخرى؟ ربما تحت تأثير ذلك المكان الخصب تاريخيا بالأساطير والروايات الشعبية يتأجج الخيال ويستكمل بعض التفاصيل عن شخصية المغنى بيبيتو التى تبقى غامضة بسبب عدم التمكن من اللغة وصعوبة ملاحقته فى شوارع المدينة.. ولكن مجرد ملاقاة أشخاص مثله، ينخرطون فيما يعملون بحب شديد ويضفون دفئا على المدينة، بل ويمدونها بطابعها وإلهامها، جعلنى أفكر مليا فى مقولتين جاءتا من حضارتين مختلفتين: الأولى هى جملة للكاتب الفرنسى الوجودى جون بول سارتر «الجحيم هو الآخرون» التى جاءت ضمن مسرحيته « الدائرة المغلقة» (huis clos) فى سنة 1944، واشتهرت بعد ذلك حتى أصبحنا نرددها بمعزل عن مضمون العمل الأدبى فى كل مرة لا نحتمل فيها ازدحام المرور أو تكدس المترو أو السوبر ماركت..

 

أى فى كل مرة نشكو فيها من الآخرين وننزعج من وجودهم. والثانية هى مثل عربى قديم، يرجعه البعض لأراضى الحجاز، يضرب للترغيب فى الجماعة والألفة، فنجدنا نقول تلقائيا: «جنة من غير ناس ما تنداس»... نحن إذا عين فى الجنة وعين فى النار... المثل العربى يؤكد على أن المكان ولو كان جنة لا يعنى أى شىء بدون الناس، أما سارتر فقد ترك الباب مواربا حين تحدث فى مسرحيته عن العلاقة مع الآخر، وظل فى حالة مراوغة بين الحرية والتحجر العقلى أو الانغلاق. فقد أراد المفكر الفرنسى القول إنه بإمكاننا كسر حاجز الجحيم الذى نعيش فيه فى أى وقت نرغب فى ذلك حينما يصبح الآخر مصدرا للإزعاج، وإن من يختارون البقاء فى الدائرة المغلقة يفعلون ذلك بمحض إرادتهم، فهم من يختارون الانغلاق والانغماس فى الماضى تحت نير عادات ومعتقدات بالية.. الحرية لديه أن تواجه العمل أو الفعل الذى لا يروق لك بآخر، هكذا تغير ما لا يعجبك دون أن تظل أسيرا لأفكار تم فرضها فرضا.

 

●●●

 

وعلى ضوء هاتين المقولتين حاولت أن أتحسس طريقى وأطبقهما على من قابلت مؤخرا، هل هؤلاء من أهل دائرة الجحيم أو ينتمون لحراس الجنة؟ مانويل صاحب المطعم التقليدى العجوز الذى يحاول بشغف أن يكشف لزبائنه عن فنون الطبخ الايبرى، فيطلب من أحدهم مثلا أن يضيف ملعقة صغيرة من خل العنب لطاجن العدس الأسود، ويشعر بلذة عندما يرى الناس تأكل بشهية، ألا يساهم هو و المغنى الجائل بيبيتو فى تحويل مدينتهما إلى جنة صغيرة؟ عامل النظافة الأندلسى الذى يتسلق أحد أكشاك الصحف ليلا لكى يمسح الأتربة من على السقف، ألا ينتمى للفصيل نفسه؟ ألا يجعل هؤلاء من إسبانيا بلدا للفرح يحتفل سنويا بثلاثة آلاف عيد، على الرغم من الصعوبات الاقتصادية؟ هل كسروا الدائرة المغلقة أو ظلوا حبيسى التشنج فقتلوا السفراء والمسئولين وطمسوا ذاكرة الشوارع بمحو الجرافيتى وعلقوا لافتات الاعتذار للرسول الكريم على أعمدة المساجد مثل جامع الزيتونة العريق بتونس وكأنهم هم من صنعوا الفيلم الذى أحدث الضجة؟ يعشق هؤلاء، على ما يبدو، الدوائر المغلقة.. ويأتى الرد على لسان مغنى راب من أصل أفريقى اشتهر باسم يوسوفا عندما يصف كيف يعيش كل منا منغلقا على ذاته، منعزلا ويردد أنه يرغب فى التغيير... « قبل أن أحاول تغيير العالم والبشر وتاريخهم، يجب أن أبدأ بذلك الأخرق الذى أرى وجهه فى المرآة. (...) الجنة، تحتاج إلى سعى، وإذا راكمت الأخطاء فأسهل شىء أن تقول: الجحيم هو الآخرون».

 

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved