كيف التفاهم مع دولة الغموض؟

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 22 سبتمبر 2016 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

فى الحادى عشر من سبتمبر من كل عام يعمٌ الولايات المتحدة الأمريكية النواح واللطم، وتتذكر الأمة الأمريكية مواطنيها الأبرياء الذين سقطوا ضحايا العنف الهمجى المجنون.

فى تلك الذكرى تناقش وسائل الإعلام الأمريكية تفاصيل ذلك الحدث الذى تم منذ خمسة عشر عاما، وكالعادة تشير بأصابع الاتهام إلى نفس الجهات إياها، التى تعتبرها مسئولة عن التخطيط والتنفيذ.

حتى الآن والموضوع عادى. لكن غير العادى هو إصرار غالبية وسائل الإعلام الأمريكية ومؤسسات المجتمع المدنى الأمريكية على التجاهل التام لعشرات الفيديوهات والكتب والمناقشات العامة الأمريكية، إضافة لعشرات الكتب والفيديوهات والمناقشات العامة غير الأمريكية، التى بينت بحجج قوية، هندسية وعلمية ولوجستية، إمكانية ضلوع جهات داخلية أمريكية فى تنفيذ ذلك الحدث المروع وبالتالى إمكانية حدوث تلاعب وتزوير فى التقرير الرسمى الأمريكى الذى كتب بشأن تفاصيل ذلك الحدث.

***

مرة أخرى: لماذا يتجاهل الإعلام الأمريكى المهيمن على الساحة الإعلامية الداخلية ملاحظات وتساؤلات وشكوك المئات من المهندسين ورجالات الاستخبارات السابقين واختصاصيى المتفجرات والمواطنين الذين أكدوا أن التقرير الرسمى تجاهل تفسير أحداث وظواهر بالغة الأهمية والتعقيد لأسباب خفية وقد تكون لأسباب استخباراتية وسياسية تآمرية؟

لا أعتقد بوجود جواب شافى لهذا السؤال، وإنما وجود مزيد من الأسئلة.

مثلا: لماذا قتل الرئيس جون كندى فى بداية الستينيات من القرن الماضى، ولماذا قتل قاتله بعد بضعة أيام فى مكان عام مزدحم وبحضور شرطة لم يستطيعوا حمايته حتى يدلى بأسماء الجهات التى وراءه، ولماذا لاتزال عشرات الأسرار الغامضة تمنع ظهور الحقيقة الواضحة المقنعة حتى يومنا هذا؟

مثلا، ما نوع العلاقة التى ربطت بعض جهات المال والصناعة العسكرية الأمريكية مع الحركة النازية فى ألمانيا، وما سبب عدم محاكمة تلك الجهات أثناء وبعد دخول أمريكا الرسمى الحرب قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بوقت قصير، ومن هم المتورطون بالاسم والمكانة والمسئوليات؟

مثلا، لقد تبين بصورة قاطعة أن جهات أمريكية قد لعبت دورا محوريا فى تلفيق كذبة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وفى تجاهل ما توصل إليه مفتشو هيئة الأمم المتحدة بعدم وجود أدلُة كافية تثبت امتلاك العراق لتلك الأسلحة، وفى احتلال العراق دون أخذ موافقة مجلس الأمن، ومع ذلك لم يحاكم أحد، ولم يعاقب المجرمون الذين أضاعوا تريليونين من الدولارات فى القيام بتلك التمثيلية العبثية. فما هى الجهات التى لم تسمح بكشف الأسرار ولا بمعاقبة الفاعلين؟

مثلا، هناك شكوك كثيرة حول تورط بعض الجهات الأمريكية فى خلق القاعدة، ثم فى تسهيل انتقالها من أفغانستان إلى العراق، ثم فى إلباسها أقنعة وألبسة لتفرخ داعش والنصرة وأخواتهما وبنات عمومتهما لإدخال العراق وسوريا وليبيا وغيرهم فى الجحيم الذى يعيشونه. وهناك شكوك كثيرة وأسئلة لا تنتهى بشأن الدور الأمريكى غير المباشر والمباشر فى عدم هزيمة الدولة الإسلامية والإبقاء عليها بين الموت والحياة لتستطيع إنهاك المجتمعات العربية وإبقائها هى الأخرى معلقة بين الحياة والموت. فما هى الجهات التى تلعب بهذه النار وتبقيها مشتعلة، ولمصحة من، وبالتعاون مع من، ولأية أهداف حقيقية غير متلاعب بها تردُدها بـ«ببغاوية» مفجعة وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى؟

***

الواقع أن هناك الكثير من الأمثلة الأخرى التى تشير إلى حدوث أحداث كبرى، أو مؤامرات خبيثة، كان لأمريكا دور بارز فى حدوثها، ولكنها تظلُ غامضة عصية على الكشف والمحاسبة فى بلاد تدعى أنها ديمقراطية، وبالتالى فيها إعلام حر، وقضاء مستقل، ومجتمع مدنى نشط وقادر، أى شفافية فى الحياة السياسية.

إن التاريخ والواقع يؤكدان كل ذلك، فأين تكمن المشكلة؟ هنا يتكاثر ضباب كثيف يحجب الرؤية. تشير إلى ذلك الضباب أقوال لساسة وكتاب. فالرئيس الأمريكى الثامن والعشرون وودرو ويلسون، له قول شهير: «بعض كبار الأشخاص فى حقلى التجارة والصناعة، لديهم خوف من أحدهم، خوف من شىء ما، إنهم يعرفون بأن هناك سلطة فى مكان ما، بالغة التنظيم، شديدة الغموض، عظيمة القدرة على المراقبة، متشابكة ومتلاحمة، كاملة إلى أبعد الحدود وعميقة التفشى، بحيث إن أولئك الأشخاص لو أرادوا نقد تلك السلطة فعلى أصواتهم وكلماتهم أن لا تتجاوز المسافة التى يقطعها هواء تنفُسهم».

لا يمكن أن يصدر خوف واتهام مثل هذا من رئيس دولة ما لم يكن وراء الأكمة ما وراءها. لقد صدر ما يشبه ذلك الاتهام من الرئيس الأمريكى أيزنهاور عندما تجرأ وقال، بعد انتهاء فترة ولايته، بأن من يحكم أمريكا هو ثالوث المال والصناعة والعسكر الغامض.

***

ماذا يعنى كل ذلك؟ يعنى أن كل قول أو تصريح أو خبر يصدر عن سلطة رسمية أمريكية (وحاشا لله أن يشمل ذلك الشعب الأمريكى الطيب الصريح الشفاف) يجب أن يمحص بألف سؤال وبتحليل دقيق عن بواعثه وفى من يقف وراءه ويستفيد منه.
التشابك المفروض المرعب العبثى المريض فيما بين شتى سلطات نظام الحكم الأمريكى وبين شتى سلطات الحكم العربية وشتى مؤسسات المجتمعات المدنية العربية يحتم الأخذ بعين الاعتبار ذلك الظل الغامض الذى يستعمل العبقرية الأمريكية وثمرات جهد شعبها لأهدافه الأنانية الطامعة فى كل ما يملكه الآخرون من ثروات مادية ومعنوية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved