مصر وثورة الإصلاح

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 22 سبتمبر 2017 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

بدأت إرهاصات ثورة الإصلاح الدينى فى أوروبا كنتيجة طبيعية لفساد الحكم، وأيضا بسبب الأحداث التى وقعت منذ بداية القرن السادس عشر حيث سيطرت الكنيسة سيطرة كاملة على مفاصل الدولة والتى بدأت منذ إعدام الإمبراطور الطفل «كونراندينو» آخر أفراد الأسرة الحاكمة فى ألمانيا عام 1268 وكان هذا نصرا حاسما للمؤسسة الدينية على الإمبراطور بعد صراع دام لمدة ثلاثة قرون، وهكذا وجدت المؤسسة الدينية نفسها حينذاك الشخصية الرئيسية التى تحرك السياسة الأوروبية؛ فملوك فرنسا وإنجلترا لم يكونوا قادرين فى أغلب الأحيان على كبح جماح السلطة الدينية، فقد كانت إسبانيا فى ذلك الوقت منهمكة فى معركتها مع المسلمين فى الأندلس بهدف إخراجهم نهائيا، أما إيطاليا فكانت ممزقة إلى دويلات لا رابط بينها، ومن ثم خلت الساحة للسلطة الدينية تفعل ما تشاء. وقد وضح نفوذ المؤسسة الدينية المطلق فى تدخلها فى الشئون الداخلية لملوك أوروبا وأمرائها حتى فى دقائق أمورهم الشخصية، أما بالنسبة للشعوب فقد استخدمت المؤسسة الدينية طقس الاعتراف بالخطايا لنوال غفران الله بواسطة رجال الدين كوسيلة للضغط على البسطاء من الناس لتحقيق مطامع خاصة برجال الدين وإغلاق باب الرحمة فى وجه من لا يؤمنون بسلطات رجال الدين من المثقفين بل وتكميم عقولهم وأفواههم بالقانون وفرضهم قيودا وأغلالا على حرية الفكر الإنسانى حتى فى القضايا العلمية الطبيعية وقد أطلق علماء الإنسانيات فى أوروبا فى القرن الخامس عشر على هذه الفترة (عصر الظلام).

وقد شهدت هذه الفترة الحروب الصليبية وانهزامها فى الشرق وازدياد المد الإسلامى الجديد متمثلا فى زحف الأتراك العثمانيين إلى وسط أوروبا واقترابهم من فيينا دون أن تفعل المؤسسة الدينية الحاكمة شيئا للتصدى لهذه الأخطار الجديدة. انتشر فى ذلك الوقت حمى بناء الكنائس والكاتدرائيات والتفنن فى زخرفتها والإنفاق عليها ببذخ زائد، وأصبح رجال المؤسسة الدينية يضاهون كبار الأمراء الإقطاعيين وانشغلوا بجمع المال بأى صورة من الصور وأصبحوا نجوما ينافسون نجوم المجتمع، وتحكموا فى أبواب الجنة والنار وأصبحت صكوك الغفران التى تمنح الغفران الإلهى لمن يدفع ما تقدم وما تأخر من ذنبه، وانحدر النظر إلى المرأة ونعتوها بالحيوان وواجب تغطيتها من هامة الرأس إلى أخمص القدمين وحزموها بحزام العفة وهو إطار حديدى يثبت حول نصفها الأسفل ويغلق بقفل يأخذه الزوج معه فى الحملة الصليبية نحو الشرق ليضمن عفة زوجته أثناء غيابه، وأصبح رجال الدين هم المتحكمون فى الشوارع والبيوت وأبواب الجنة والنار، وقد وصفهم «جون ويكلف» وهو أحد رجال الكنيسة الإنجليزية الذين قادوا حركة الإصلاح الدينى فى القرن الرابع عشر فقال: كانت أقوالهم وأفعالهم (أى رجال المؤسسة الدينية) بعيدة عن الإنسانية وحضا على ارتكاب الرذيلة والخوض فى دماء الأحياء وكان رئيسهم (رئيس المؤسسة الدينية البابا) فى ذلك الوقت كبيرهم فى ارتكاب الآثام، وكانت أيدى رجال الدين من أتباعه ملوثة بالدماء وألسنتهم لا تنطق إلا بالكذب ويكفى أنهم يطاردون النساء ويعيشون حياة الترف والرفاهية ويختصون أنفسهم بملذات الحياة بكل ما فيها من إسراف ويجمعون المال بشتى الطرق غير المشروعة.

***
نتيجة كل ذلك تطلع الشعب إلى الإصلاح الدينى والسياسى والاجتماعى، وكانت الخلفية التاريخية التى أعدت المسرح للإصلاح هى انحدار مستوى المؤسسة الدينية فأصبح رجالها من صغارهم لكبارهم يفتون الناس فى كل ما يخص حياتهم اليومية على أساس أنهم يعرفون ما فى الكتب المقدسة، وكان الكتاب المقدس فى ذلك الوقت ممنوعا ترجمته من اللاتينية إلى الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، لذلك كانت فتواهم لا تعتمد على النص أو تفسر النص بطريقة ملتوية لتحقيق أهداف خاصة مثل احتقار المرأة أو زواج الأطفال أو تقديم أموال مبالغ فيها لبناء بيوت العبادة، أدى هذا إلى تدهور المستوى الأخلاقى للشعوب الأوروبية، فلم تعد هناك قيم إنسانية بل المال كان هو المقياس وبالمال تصنع ما تشاء فتفشت الفوضى فى كل أركان الدولة. 

فى ذلك الوقت كانت هناك إرهاصات ثقافية وفلسفية وتوجهات نحو المعارف والعلوم خارج وبعيدا عن المؤسسة الدينية، وبدأ البعض ينادى بالنزعة الإنسانية humanism (التأكيد على القيم الإنسانية وقيمة الإنسان ذاته). كل هذا جهز المسرح وخلق الجو المناسب لإمكانية ظهور الإصلاح.

وهكذا فى 31 أكتوبر 1517 علق الراهب مارتن لوثر 95 احتجاجا على ممارسات السلطة الدينية على باب كاتدرائية ويتنبرج، وكان هذا بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع حريق ضخم ضد سلطان رجال الدين ومؤسساته وقد مثلت هذه الاحتجاجات تحديا قويا بالنسبة لسلطات المؤسسة الدينية فى ذلك الوقت؛ إذ كان فى هذا مراجعة لدورها فى الوساطة بين الله والناس؛ حيث إن لوثر اكتشف أنه لا يوجد فى الكتاب المقدس أية نصوص تعطى الحق لأى مؤسسة دينية لتتحكم فى تفسير الكتاب المقدس للناس، ولا حق لرجل دين أن يردد كلام الله وكأنه كلامه هو وسلطان الله كأنه سلطانه هو، وقد أعقب لوثر ذلك بثلاث رسائل أطلق عليها (رسائل الإصلاح) ولم يجد البابا إزاء هذا التحدى بُدا من إصدار قرار الحرمان الكنسى عام 1520 ضد لوثر والذى قام بدوره بإحراق قرار البابا أمام جمع من أتباعه، وتبع ذلك محاولات للتدخل السياسى فى مؤسسة القضاء؛ للقضاء على الاضطرابات وتم رشوة قضاة فى المحاكم للحكم على أى مصلح بالسجن أو الحرق بتهمة الكفر بالكتاب المقدس أو ازدراء الدين المسيحى أو رجاله أو قياداته، والتحكم فى أخلاقيات البشر ومحاكمة طرق ملابس النساء والأعمال الفنية والأدبية التى تزدرى الدين.

دعا الإمبراطور إلى محكمة دينية فى يناير 1521 لمحاكمة لوثر الذى أبدى مرونة فى مواقفة إلا فيما يخص معتقداته قائلا: «ما لم أقتنع بشهادة الكتاب المقدس أو بسبب واضح منطقى آخر للرجوع عن آرائى، فأنا لا أثق فى البابا ولا فى المجامع الموجهة من السلطة السياسية والدينية، وأنا ملتزم بالكتاب المقدس وبالأقوال التى اقتبستها منه، وكلمة الله هى التى تأسر ضميرى وتخضعه. هنا أقف وليعيننى الله». وهنا صدر قرار باعتبار لوثر خارجا عن القانون ومنشقا وعنيدا وزنديقا مجاهرا بالذنب وهكذا صار إهدار دمه حلالا حلالا.

***
هنا أنقذ لوثر من أيدى جلاديه أمران أولهما سياسى وثانيهما علمي؛ أما الأمر السياسى فكان قرار المجلس الإمبراطورى عام 1526 الذى يقضى بحق كل أمير ألمانى فى اختيار المذهب الدينى فى إمارته حيث كانت ألمانيا مقسمة إلى إمارات، وهكذا قام أمير إحدى المقاطعات المقتنعين بالإصلاح بضم لوثر إلى مقاطعته وقام بحمايته حتى نجحت حركة الإصلاح وشملت أوروبا كلها، أما السبب العلمى فقد كان اختراع المطبعة وقد ساهم طبع الـ95 احتجاجا للوثر وطباعة الكتاب المقدس، فى وصول الاحتجاجات مطبوعة إلى جموع الشعب وكذلك الكتاب المقدس فوضح أن معظم ما كانت تدعيه المؤسسة الدينية على أنه كلام الله من احتقار للمرأة ومن تحديدها ما هو الإيمان وما هو الكفر ومن وصايا تزيين بيوت العبادة ومغازلة مشاعر البشر من خلال ادعاءات عن أن الأغنياء الذين يساهمون فى بيوت العبادة لهم الجنة.... إلخ، معظمها أكاذيب.

فى زيارة لوفد خارجى لرئاسة الجمهورية والحديث عن حقوق الإنسان المصرى المهدرة، المرأة والطفل، وذكر فتوى مضاجعة الزوجة بعد وفاتها وزواج القاصرات وتغطية المرأة وقانون ازدراء الأديان والقضاء المسيس والمتدين والنجوم اللامعة من رجال الدين والتحكم فى أبواب الجحيم وأبواب الجنة ومصادرة الكتب والأفلام ومطاردة المثقفين والمجتهدين فى الدين والمصلحين ــ اتفق الحاضرون أننا نعيش القرون الوسطى الأوروبية المظلمة وأنه لا حل بدون تدخل سياسى كالتدخل الذى حدث فى القرون الوسطى ليعطى حرية الاجتهاد وحماية المجتهدين من المطاردة والقتل، ثم استخدام العلم كما استخدم الإصلاح الأوروبى المطبعة واليوم البديل العلمى بجوار المطبعة هو وسائل التواصل الاجتماعى... فهل نفعل؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved