أرض البرتقال الحزين

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 22 سبتمبر 2018 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

تداولت الصحف الأسبوع الماضي أخبارا حول فوز شركة صينية بمناقصة لتوسيع ميناء حيفا وتشغيله لمدة 25 عاما، فيما اعتبر تهديدا للشراكة الاستراتيجية بين تل أبيب وواشنطن. أثار لدي الخبر شجونا، في خضم مراجعات أوسلو التي يتحدث عنها الكثيرون بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاما على توقيعها، وتوديعنا لما كنا ندرسه سابقا في الكتب حول خارطة فلسطين بمدنها الساحلية حيفا ويافا اللتان لا يفصلهما سوى 57 كيلومترا. كانت حيفا أهم موانئ فلسطين التاريخية، وصارت اليوم أكبر موانئ إسرائيل الدولية الثلاث، إذ يعمل بها أكثر من 1000 شخص، وبفضل الدور المهم الذي لعبته قطر وتركيا مؤخرا، تمكن الميناء عام 2017 من تحقيق نمو بنسبة 5% عن العام السابق، وتسجيل رقم قياسي بنقل 1.340 مليون حاوية نفطية لأول مرة في تاريخه، إذ اعتمدت البضائع التركية على ميناء حيفا كمحطة ترانزيت رئيسية لنقلها إلى الدوحة. هذا هو الميناء نفسه الذي دخل منه آلاف المهاجرين اليهود بعد الحرب العالمية الثانية، وساهم تدريجيا في الترويج لصورة إسرائيل الدعائية الاستشراقية كدولة متقدمة و"ديمقراطية" على النمط الغربي في شرق المتوسط. وبالتالي كان يتم طمس الصور القديمة المتناولة للحياة اليومية في حيفا ويافا المجاورة التي كان من المفترض أن تقع ضمن حدود فلسطين وفقا لخارطة التقسيم وقرار 181 الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، إلا أن الجيش الإسرائيلي حاصر يافا في أبريل ومايو 1948، وأجبر أكثر من 70 ألف فلسطينيا على الرحيل من جراء القصف الذي استهدف المدينة، تلك التي كانت تحوى ميناء صغيرا أنشأ في سنة 1888 للتجارة وتصدير البرتقال وصار اليوم جزءا من تل أبيب. صادرت الحكومة الإسرائيلية بيارات البرتقال الخاصة بالمزارعين العرب، وتحولت الثمرة البرتقالية إلى كناية عن الاحتلال من ناحية، ورمزا لرخاء إسرائيل من ناحية أخرى.
***
كان ضمن من سافروا في مايو 1948، خليل رعد، أول مصور فلسطيني من أصل لبناني. افتتح هذا الأخير استوديو تصوير في شارع يافا عام 1895، خارج أسوار القدس، وانشغل بتسجيل تفاصيل الحياة اليومية في سائر أنحاء فلسطين، ومنها عمل الفلاحين الفلسطينيين في مزارع البرتقال التي سميت "بيارات" لأنها كانت تروى في بادئ الأمر بمياه الآبار التي حفرها المزارعون. انتقل خليل رعد وزوجته إلى أريحا، عندما بسطت الحرب جناحها على فلسطين، ثم رحلا إلى لبنان حتى وافته المنية عام 1957. هدم استوديو التصوير الخاص به بعد سنوات قليلة من رحيله، لكن ظلت صور البائعين وهم ينادون "يافاوي يا بردقان" عالقة في بعض الأذهان، تفيض بعطر زهر الليمون والبرتقال، وتذكر بأنه صار رمزا لما سرقته إسرائيل، صار رمزا لدولة محتلة، مثلما أصبحت الكوكاكولا مرتبطة بثقافة العولمة والهيمنة الأمريكية.
***
برتقالة ملساء، ذو قشرة سميكة من نوع "الشموطي" ونكهة مميزة.. استغلتها إسرائيل لغرض الدعاية ووضعتها على لوحات الترويج السياحية، وحاول الفلسطينيون بإمكانات أقل أن يجعلوها صورة مضادة للمغالطات التاريخية الإسرائيلية. يؤكد هؤلاء أن زراعة البرتقال الشموطي بدأت في يافا في نهاية القرن الثامن عشر، بعدما جلب العرب خلال الفتوحات شجرة البرتقال المر. وكان البحارة البرتغاليون، مكتشفو طريق رأس الرجاء الصالح، هم أول من اكتشف البرتقال في هندستان. وبعد أن كان إنتاج الحمضيات على يد المزارعين الفلسطينيين بضعة آلاف من الأطنان في نهاية القرن التاسع عشر، وصل إلى نصف مليون طن قبل ضياع فلسطين عام 1948. نشأت حوله صناعة خاصة لتجهيز الصناديق الخشبية التي كان يحمل فيها، ثم تم بناء ميناء عائم في بحر يافا تصله القوارب الصغيرة بحمولتها من الحمضيات لتنقلها من هناك إلى بواخر كبيرة تقوم بشحنة للخارج، إلى مصر وتركيا واليونان وغيرها من الدول. حلم الفلسطينيون في عشرينات القرن الفائت أن يكون علم دولتهم بألون البرتقال، لكن ذلك لم يحدث... ولم يعد حلم الدولة متاحا في الأسواق. ولم تبق لنا سوى حكاية البرتقال لنرويها ونتذكر رائحتها العطرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved