للّه فى نهضة اليابان حكمته..

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 22 سبتمبر 2019 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

كانت اليابان حتّى نهاية القرن التاسع عشر دولة متشظيّة وضعيفة خاضعة للنفوذ الأجنبيّ. لم تتوحّد ولم تبدأ نهضتها حتى أواخر ذلك القرن. كان صعودها، الذى لم يخلُ من الآلام والحروب الداخليّة الدامية، سريعا. هكذا حتّى انتهى الأمر إلى هزيمة أسطولها للأسطول الروسى عام 1905، ما شكّل سابقةً تاريخيّة لدولة شرقيّة نامية وصل صداها بعيدا حتّى النهضة العربيّة.. وأحمد شوقى وقصيدته المشهورة «لله فى نصرة اليابان حكمته».
وسريعا أيضا ما تحوّلت اليابان، مجموعة الجزر المعزولة الفقيرة بالموارد، إلى قوّة إمبرياليّة حيال جوارها فى الصين وفى جنوب شرق آسيا، ساعيةً لتأمين الموارد لشعبها وصناعاتها الناشئة وبهدف استباق استهداف القوى الاستعماريّة الكبرى لها، فى حين كانت تلك تتقاسم النفوذ على ذات الجوار الجغرافيّ. بل وتجّرأت فى الحرب العالميّة الثانية على مواجهة الولايات المتحدة ذاتها ــ وليس للمفارقة جارتها روسيا القريبة. لكنّ الأمور حُسِمَت بقنبلتى هيروشيما وناجازاكى وخضوع اليابان للاحتلال الأمريكى المباشر وتحوّلها إلى بلدٍ ينصّ دستوره أنّه مسالم لا يشنّ الحروب ولا يشارك فيها.
شكّل ذلك الاحتلال سابقةً بالنسبة للولايات المتحدة، بحوالى 60 سنة قبل احتلال العراق. أرسلت أمريكا لليابان مساعدات غذائيّة بعد أن تدمّر الكثير من اقتصادها، ولكن على خلاف ما فعلته فى أوروبا وألمانيا، تولّت إدارتها مباشرةً من قبل حاكمٍ عسكريّ ولم تقُم لها مشروع مارشال للنهوض الاقتصاديّ وإعادة الإعمار، رغم أنّ اليابان كانت تعرف هى أيضا حركة شيوعيّة ونقابيّة نشِطة.
***
تخبّطت السياسات الاقتصادية والإداريّة فى بلدٍ دَمَّرت فيه الحرب حوالى 4 ملايين مسكن. فى البداية، توجّهت الإدارة الأمريكيّة إلى إبعاد رموز النظام السابق ومحاكمتهم ــ رغم أنّ البعض منهم كان قد نحر نفسه، «هاراكيرى»، متحمّلا عار الهزيمة ــ وإلى تفكيك المجموعات الاقتصادية والمالية الكبرى، «الزايباتسو»، عماد الاقتصاد اليابانى وأساس اقتصاد الحرب، وإلى شرذمة الملكيّات العقاريّة والاقطاعية، كما تحويل الصناعات العسكريّة لتوفير المنتجات الاستهلاكية. استندت رؤيّة الأمريكيين لليابان أنّها يمكن أن تكون «مصنعا» للبضائع الرخيصة تصدّرها للعالم الغربى. إلاّ أنّ كوادر الدولة اليابانيّة وكبار رجال الأعمال كانت لهم رؤية أخرى، بحيث تُصبح البلاد بفضل تخطيطٍ مركزيّ ورفع مستوى المعيشة والتعليم والتأهيل، استفادة ممّا تمّت مراكمته من خبرات أثناء الحرب، هى الأكثر تقدّما تكنولوجيا. تناحرت السياستان ما أدّى إلى تخبّط الأوضاع المعيشيّة وتضخّم الأسعار وانهيار قيمة العملة. وبقيت وتيرة إعادة إعمار المساكن بطيئة وصولا إلى صدور قانون يمنع النازحين إلى الأرياف، هربا من الدمار وبحثا لتأمين القوت اليوميّ، من العودة إلى مدنهم. ووصلت الأوضاع إلى درجةٍ من السوء اضطرّ فيها الرئيس الأمريكى هارى ترومان إلى إرسال مبعوثٍ خاصّ لإدارة دفّة المالية والاقتصاد، هو المصرفيّ جوزيف دودج. ضبط دودج الاقتصاد اليابانى بسياسات تقشفية قاسية زادت من معاناة اليابانيين.
***
فى بداية الخمسينيات، لم يكُن نهوض اليابان اقتصاديا من جديد أمرا حتميّا فى ظلّ الفوضى السياسيّة والاقتصاديّة المستشرية. نشبت فى ذلك السياق حرب كوريا وغيّرت كليّا الموقع الاقتصاديّ للبلاد. فما كان من الولايات المتحدة إلاّ أن أعادت تشغيل المصانع العسكريّة ونشطّت معامل المواد الاستهلاكية لخدمة قوّاتها التى كانت تقاتل بالقرب من اليابان. وتمّ غضّ النظر عن رموز النظام القديم وأعيد تشكيل الزايباتسو من جديد. وتمّ ضخّ أموال طائلة فى الاقتصاد اليابانى بفضل «الطلبيّات الخاصّة» للجيش الأمريكى، ممّا كان له أثر كبير يفوق فعاليّةً مشروع مارشال فى بلدانٍ أخرى. تحسّنت أحوال المواطنين بشكلٍ ملحوظ، فى اقتصادٍ بقى مزيجا من مركزة شديدة لرأس المال وتخطيطٍ إداريّ للاقتصاد. نموذج «رأسمالى» خاصّ بالبلد بات كثيرون حول العالم يعرفون رموزه تحت مسميّات ميتسوى، ميتسوبيشى، سوميتومو، فوجى، وغيرها. تلك «الزايباتسو» ذاتها التى تحوّلت تدريجيّا من الصناعات العسكريّة إلى قمّة التصنيع والتصدير التكنولوجيّ. كلّ ذلك بفضل «منّة من الآلهة» أتت من حربٍ فى الجوار، لبلدٍ اعتمد فى دستوره الأوّل بعد الحرب أنّه مسالم لا يشارك فى أيّة حرب.
ساعد عاملان رئيسيّان فى تلك النهضة الاقتصادية، هما بقاء أغلب المؤهّلات البشريّة فى أماكنها بعد الحرب وتركيز الاستثمار الحكومى على نوعيّة التعليم فى البلاد. لقد عانى المواطنون اليابانيّون كثيرا من أجل ذلك، إذ لم تتمّ إعادة إعمار المساكن حقا إلاّ بعد 25 سنة من انتهاء الحرب فى ظلّ تضخّم أسعار عقارات مزمنٍ تعوّد الناس من جرّائه أن يسكنوا فى منازل صغيرة جدا.
***
اليابان، التى كانت تشابه أوضاعها فى القرن التاسع عشر أوضاع البلدان العربيّة، أضحت دولة اقتصادية صناعية كبرى قادرة على التعامل مع ندرة مواردها الطبيعيّة وتجد مكانا لها مع صعود غريمتيها التاريخيّتين، الصين وكوريا، وتستطيع تحمّل تبعات كوارث طبيعيّة ضخمة. وساد بصددها توصيف «المعجزة اليابانيّة».
لقد أدى تسونامى عام 2011، الموجة القادمة من المحيط بعلوّ 15 مترا، والتى تزامنت مع انطلاق تقلّبات «الربيع العربى»، إلى انصهار قلب مفاعلين نوويين فى فوكوشيما، على شاكلة ما حدث فى تشيرنوبيل، وكذلك إلى تدمير كثير من المدن الساحليّة على المحيط الهادئ. وبسرعة كبيرة تمّت مواجهة احتياجات المواطنين فى المناطق المنكوبة ووضع إطار عام وصندوق لإعادة الإعمار. لكنّ ما أخذ وقتا طويلا للشروع بالتشييد هو النقاش والتوافق مع الأهالى حول كيفيّة الإعمار وعودة النازحين من المساكن المدمّرة، بين متطلّبات الأمان فى مناطق باتت معرّضة لموجات تسونامى أعلى ممّا كان يُعتقد أنّها الأكبر وبين متطّلبات السكّان أنّهم يريدون العودة إلى ذات الأماكن التى كانوا يعيشون فيها.
هكذا رفض أهالى بلدة شاطئيّة صغيرة كان سكّانها يعدّون عشرين ألفا، أغلبهم من الكبار فى السنّ ــ إذ لا عمل للشباب هناك ــ السكن فى التلال المحيطة بوادى النهر. هم يريدون العودة للعيش إلى ضفاف النهر وليس على التلال. اضطرّت السلطات إلى إزالة جبلٍ قريب كى يتمّ ردم السهل ورفع مستواه 20 مترا. هذا بالإضافة إلى إقامة ساتر ضخم على طول الواجهة البحريّة من المفترض أن يدرأ أعلى مستوى تسونامى معروف. تكلّف الإعمار لهذه المدينة الصغيرة وحدها أكثر من 2 مليار دولار، دون دورٍ اقتصاديّ مستقبليّ واضح.
لا يهمّ. اليابانيّون يستثمرون حكوميّا، كما منذ بداية النهضة، بشكلٍ كثيف على تعليم نوعى للجيل الجديد ثقةً بأنّه سيجد حلولا، ليس فقط لـ«غضب الآلهة» فى الزلازل والتسونامى وإنّما أيضا لشيوخ السكّان ــ حيث يعمل كثيرٌ من المعمّرين ــ وتراجع عددهم المرتقب عن المائة مليون، خاصّة بمنظور إيجاد مكانةٍ فى عالمٍ شديد التقلّبات.

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved