نجيب محفوظ.. فتنة الموسيقى

محب جميل
محب جميل

آخر تحديث: الأحد 22 سبتمبر 2019 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

كنت وما زلت أرى أن التدفق الإبداعى لأى أديب مرتبط بمنابع عديدة، تسهم جميعها فى تشكيل الذائقة الأدبية لديه. فكيف إذا كنا نتحدث حول أديبنا العالمى نجيب محفوظ (1911 – 2006)؟ فبالرغم من العديد من الدراسات النقدية والفنية التى سُطّرت حول تجربة «محفوظ» الإبداعية فإن واحدًا من أبرز الروافد التى أثرت فى أعماله الإبداعية لسنوات عديدة لم يحظَ بدراسة مستقلة وافية متعددة الأوجه من قبل الشغوفين بأدبه والمتتبعين لسيرته. فما أقصده هنا الدور الذى لعبته الموسيقى فى حياة «محفوظ» الشخصية والإبداعية. صحيح أن هناك دراستين جادتين حول هذه النقطة تحديدًا أولهما: «مع الغناء والمغنين فى أدب نجيب محفوظ» (1970) أنجزها الناقد الموسيقى كمال النجمى وثانيهما: «إبداع يغني» (2005) أنجزها المؤرخ د. نبيل حنفى محمود وقد نُشرتا على صفحات مجلة الهلال لكنهما اكتفيتا برصد أسماء الأغنيات وأعلامها كما وردوا ضمن أعمال «محفوظ» الروائية والقصصية دون أن نقلل من الجهد الكبير الذى بذله الكاتبان.. فكان من الممكن أن تتشعب الدراستان نحو استجلاء السياق التاريخى وتبدل الأحوال الاقتصادية، وكذلك تغير الذوق العام لدى الجمهور فى الفترة من منتصف القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين ما أدى فى نهاية المطاف إلى تغير المناخ الموسيقى ككل وانعكاسه على الأدب المحفوظى.

***
بات من النادر أن نعثر على حوار يتحدث فيه «محفوظ» عن هواياته وذكرياته دون أن يتطرق إلى دور الموسيقى. فهو الطفل الذى طاف مع والده مسارح روض الفرج فى أشهر الصيف ليشاهد الفرق المسرحية الصغيرة ويستمع فى بيته إلى الفونوغراف الذى يصدح بأصوات الشيخ يوسف المنيلاوى والشيخ سلامة حجازى والشيخ سيد الصفتى وصالح عبدالحى، وكذلك الشيخ على محمود الذى وصف صوته بأنه «موازيًّا للوطن». وبلغ حبه للغناء أن التحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية عام 1933 حينما كان طالبًا بالفرقة الثالثة فى كلية الآداب قسم الفلسفة ليتعلّم العزف على آلة القانون الوترية لكنّه لم يكمل دراسته بغرض الاستعداد لاختبار الليسانس بالكلية. ودائمًا ما كان يتحدث حول إتقانه للغناء السليم وعزفه لمجموعة من البشارف والسماعيات التى تعلمها أثناء دراسته. وهكذا فإن المتتبع لأعماله الأدبية بداية من «خان الخليلي» (1946) مرورًا بالثلاثية و«المرايا» (1972) وصولا إلى «صباح الورد» (1987) و«حديث الصباح والمساء» (1987) يمكن ببساطة أن يلحظ ذلك الاحتفاء السمعى بأحوال أهل الغناء وطقوس الوصلة الغنائية وتخت العوالم وطبيعة العازفين والفروق الدقيقة بين القوالب الغنائية المختلفة من الطقطوقة والدور والموشح والليالى والمواويل. لقد شغفته الموسيقى بدرجة تفوق الأدب مما جعله يبوح للناقد الكبير غالى شكرى فى كتابه «نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل» (1988) بقوله: «كل ما أستطيع قوله إننى أحببت الفنون التشكيلية والموسيقى لدرجة أن شغفى بالموسيقى يكاد يفوق شغفى بالأدب».
***
لم تكن علاقة «محفوظ» بالموسيقى مجرد شغف واستماع إلى كل ما يروقه بل كانت له آراء عديدة حول المطربين والملحنين. فكان يميل إلى صوت سلطانة الطرب منيرة المهدية ويصفها دائمًا بأنها واحدة من أفضل الأصوات النسائية التى ظهرت خلال القرن العشرين وخاض نقاشًا طويلا فى أحد حواراته مع الناقد المسرحى فؤاد دوارة ضمن كتابه «نجيب محفوظ من القومية إلى العالمية» (1989) حول الدور الخطير الذى لعبه كل من سيد درويش ومحمد عبدالوهاب فى تطوير الموسيقى العربية. فكان يؤكد على البصمة التعبيرية التى تركها «درويش» وغناؤه لطيف واسع من أصحاب المهن البسيطة قبل أن يثنى على «عبدالوهاب» الذى مر بطورين أساسيين ــ من وجهة نظره ــ فكأن بداياته تشبه المنفلوطى وصعوده يشبه توفيق الحكيم؛ أى أنه جمع بين الأصالة والمعاصرة مع استيعاب للتراث الموسيقى وهضمه واقتباس نغمات غربية تجعل من أعماله فى النهاية غاية فى الإبداع والرُقى. وربما يظن القارئ العزيز أن اهتمام أديبنا بالموسيقى كان مقتصرًا على الشرقية منها فقط. فيبدو هذا سليمًا من الناحية الشكلية أما من الناحية العملية فقط كان «محفوظ» يكرس مدة طويلة من يومه لقراءة موسوعة «الموسيقى عبر العصور» وتتبع كل ما تقدمه الإذاعة الأوروبية من معزوفات إلى جوار ما يطرحه د. حسين فوزى من تحليلات ورؤى نقدية حول الموسيقى العالمية. فكان من الطبيعى أن تطول الأحاديث بينه وبين الشيخ زكريا أحمد حول الموسيقى الشرقية فى أحد المقاهى ويظل مقدرًا لصوت الشيخ محمود صبح وما به من قدرات عالية وهو فى الوقت ذاته يستقى معلومات وافية حول الموسيقى الغربية من صديقه الموسيقار عبدالحليم نويرة.

***
لكن هذا العالم المحفوظى الفسيح المرصّع باللآلئ الموسيقية، ظلَّ محتفظًا بمكانة خاصة فى إحدى زواياه لصوت استثنائى. فكتب محتفيًّا به فى جريدة الأيام فى 21 ديسمبر 1943 مقالا جاء فيه: «وما من جمود مثل أن تقارن صوت من الأصوات المصرية بهذا الصوت المتعالى فقل فى غناء أسمهان وليلى مراد ونور الهدى ما تشاء إلا أن تقارنه بصوت أم كلثوم فتضره من حيث أردت أن تنفعه وتهينه من حيث أردت أن تكرمه وتمرغه فى التراب وقد أردت أن تسمو به إلى السماء». ويبدو أن هذا الرأى ترسخ لديه تدريجيًّا خصوصًا أنه كان منحازًا من البداية لصوت منيرة المهدية كما أخبر الروائى جمال الغيطانى فى كتابه «نجيب محفوظ يتذكر» (1980). وبالرغم من عشقه البالغ لشخصية أم كلثوم وصوتها فإن أديبنا لم يلتقها سوى مرة واحدة عندما طلب منها الأستاذ محمد حسنين هيكل أن تحضر حفل احتفال مؤسسة الأهرام بعيد ميلاد «محفوظ» الخمسين فى ديسمبر 1961 وخلاله دار بينهما حديث طويل حول القصة والرواية والشعر. لقد كان «محفوظ» مرآة لعصره بكل ما فيه من انتصارات وانكسارات فانعكست تلك الرؤى بطبيعة الحال على ما تناوله من أغنيات وأعلام موسيقية فى فترة عُرفت بعصر النهضة للأغنية العربية. وعاش «محفوظ» بنفسه ليرى الانحدار التدريجى لمستوى الأغنية العام فكان يشعر بحسرة بالغة تجاه ما آلت إليه الأمور. إن الكتابة عن روافد الإبداع لدى أديبنا تحتاج إلى صفحات وصفحات لكن حسبنا هنا أننا قطفنا زهرة لتتبع تفرع شجرة الإبداع المحفوظى. وفى النهاية أدعو القارئ إلى العودة للحوار الذى أجراه أديبنا مع الأستاذ محمد الدسوقى (مجلة فن، 11 يوليو 1994) والكتاب الذى أنجزه الناقد الأدبى رجاء النقاش بعنوان «نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998) ليغوص أكثر فى العلاقة بين الموسيقى وأدب نجيب محفوظ.

كاتب مصرى مهتم بالتراث الثقافى

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved