نور الذاكرة

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 22 سبتمبر 2019 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

ذاكرة الصورة والمكان والرائحة والأشخاص والشوارع والشجر، كلها أشكال من الذاكرة التى يختزلها البعض فى صورة يحملها فى حقيبة كلما ارتحل ويضعها الأقرب إلى مكان نومه أو جلوسه أو غرف المعيشة.. كانت هى تملأ غرفة معيشتها بالصور.
***
نبشت كل الزوايا المتربة والصناديق المغلقة لسنين لتبحث عن صورة لأم أو أخ أو أب أو صديق رحل.. سعدت عندما صفتها كلها على ذاك الجدار الواسع فى غرفة المعيشة اليومية ووسط ذاك المنزل الذى بنى طوبة طوبة بكثير من المحبة وأنارته هى بقلبها الواسع كالبحر الذى تشتاقه والأفق البعيد الذى تحبه ساعة المغيب.
***
بعدها صارت تطلب من الأولاد والبنات صور لهم/لهن وإن رفض أحدهم تقوم هى بالتقصى والبحث حتى تحصل على صورة جماعية تأخذها لذاك المصور بمحله القديم وما إن تقترب حتى يردد «صورة من هذه المرة تريدينى أن أكبرها» ويوضح أن مثل هذا لا يعطى الوضوح المطلوب للصورة.. تبتسم هى متمتمهة بصوت منخفض هم فى قلبى ولكنى لا أطيق العيش إلا معهم.
***
كثرت الصور، كبار وشيوخ كثير من الرجال ببدل أنيقة عندما كان أهل الخليج يقضون صيفهم فى مصر ماضين فوق نيلها مستمتعين بكثير من الجمال الذى شوهه الزحف حتى زحفت العشوائيات والتوك توك على الشوارع الواسعة.. وآخرون إلى لبنان، إلى الجبل حيث عالية وبحمدون وحمانه.. يجلسون فى حضن الغطيطة وينعمون بصيف منعش دون مكيفات.. هناك خلع الكثيرون أثوابهم التقليدية ومضوا بين الجموع ببدل أنيقة دون «الفشخرة» التى تسود الكثير من الشباب الآن بأسماء الشركات والمنتجين والمصممين.
***
أما النساء فلم يكن ملتحفات السواد بل لبسن الفساتين الأنيقة والقصيرة الأمهات وبناتهن كلهن منتعشات مقلدات لنساء مصر ولبنان قبل أن يزحف السواد إلى تلك المدن المستنيرة.
***
تضع هى تلك الصور ثم يأتى الأولاد ليرفعوها من الحائط خوف من أعين المتطفلين الذين يزورونها والذين يجدون فيها مادة خصبة لنميمة صباحيات الشاى والقهوة.. لا تكترث هى فقد سبقت زمنها بكثير.. تتحدث عن الحب بحرية أمام بنات العائلة الصغيرات، توشوش لهن «الحب هو أجمل ما فى الحياة» يضحكن هن؛ لأنها الوحيدة بين نساء ذاك الجيل التى تتحدث عن الحب «المحرم» على نساء الخليج والمحلل لرجالها!
***
عندما يخلو المكان تتأمل هى فى كل أولئك الذين رحلوا، تحتسى شاى الصباح معهم تحدثهم بقلبها أو توشوشهم «اشكثر ولهانه عليكم» وأهل الخليج يستخدمون الوله أكثر من الشوق وكأنهم يعرفون كم هو بمذاق تمرهم.. وعندما تسقط الدمعة تتحول إلى صور الأطفال والشباب والشابات، تفرح بهم وربما تسلى نفسها بتلك الوجوه الطرية المشرعة على الكون. تأخذهم عندما يحضرون فى حكاوى الماضى، تعلمهم كيف كانت الحياة بسيطة ولكنها راقية جدا وكيف كانت أفلام الأبيض والأسود القادمة من مصر، ككل زوايا حياة أهل الخليج، وسيلة ليس فقط للمتعة الروائية بل والبصرية أيضا. تعلم هم، أى أهل الخليج، الكثير من أهل مصر وبقيت صورهم فى المقاهى المصرية وعند شواطئ المعمورة وعلى ضفاف بورسعيد مخزنة فى صور تخاف هى عليها من أن تبهت فوق الحيطان فتصفها فى ألبوم أنيق أحضرته من بيروت فى إحدى الرحلات الصيفية.
***
للصور رائحة أو هى ما تبقى عندها من ذاكرة المكان، تأتيها رائحة زهر الليمون المنعشة وزهرة الجاردينيا التى لم يكن يعرفها أهلنا حيث تتزين النسوة بالياسمين والمشموم.. كانت هى تضع الياسمين و«الرازجى» فى وعاء من البلور وتنثر عليه بعض نقاط من الماء لتنتشر رائحته فى كل الغرفة فتعيد الذاكرة بالصورة والرائحة واللحظة المخزنة والتى قبضت هى عليها وكأنها أثمن ما ورثته من كل ذاك الزمان والأحبة.. صورها هى الباقية على رفوف الذاكرة أو هى من يحرك كل تلك الأوقات فتستيقظ من الحيطان لتشكل حياة جديدة.
كاتبة بحرينية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved