فضيلة الاعتراف

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 22 أكتوبر 2011 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

يكون الكتاب أحيانا وسيلة لطرد الأرواح الشريرة، وتكون الحكاية هى البلسم، وسط كل هذا الضجيج والعنف.. رواية درية الكردانى «رمال ناعمة»، الصادرة عن دار الثقافة الجديدة فى نهاية سبتمبر الماضى، تسمح بهذه المساحة من التأمل والاختلاء بالذات، نسكن إلى تجربتها لنتابع إحساسها بالفقد والتفكير العميق فيما مضى. ظلت تتساءل طويلا هل يمكن أن تعيش «خارج الملعب العريق» دون صاحبه أو ظله؟ فجاء الجواب بشكل أو بآخر مع احتراق البيت الذى عاشت فيه مع زوجها الفنان العظيم أو «صاحب الملعب» كما تسميه، فمع الحريق مضت سنوات الذكريات وحياة كاملة، ولم يبق منهما إلا الصور. أيقنت أن التجربة انتهت وأن الحب القديم كان «سدا» خذلها صاحبه الذى تتناثر فوضاه المنظمة فى كل مكان، وأنه حان الوقت لكى تتوقف هذه العلاقة المركبة والمضطربة التى لم تخلو من أنانية ولامبالاة.. وتعلق شديد.

 

الكاتبة التى تعمل حاليا كمدرسة للغة العربية فى جامعة نورث كارولينا استغرقت عشر سنوات للانتهاء من روايتها الأولى تلك، وهى لا تفصح عن هويتها السردية بوصفها سيرة روائية، لكنها تنهل من العالم نفسه، بشكل عفوى يتجنب الصنعة. تحكى بضمير المتكلم كيف جذبتها الرمال الذهبية الناعمة (كالتى رسمها زوجها الفنان فى صورة للبحر، وقد كان يعشق رسمه هادئا أو هادرا). «الرمال الذهبية تصبح رمالا فائقة النعومة والدقة والخطر. تعطيك الأمان لترتاح وتسترخى فتتحرك بهدوء مرعب لتبتلعك، وأنت سعيد. تفقد كل ما لك وعلى وجهك ابتسامة خدر».. وهكذا تبوح صاحبة الكتاب فى جرأة حتى تريح وتستريح.

 

فالمادة الاعترافية يمكن أن تصير مادة للتفكير العميق خاصة إذا ما كتبت تحت هيمنة أنماط اجتماعية معينة (مثل اعترافات النساء فى ظل قمع اجتماعى وجسدى) أو الرجال والنساء تحت وطأة الأنظمة السلطوية (مثل ما يكتبه السجناء) أو الشعوب تحت نير الاستعمار، هنا يكون للبوح دور فى التعبير عن صوت الأقليات أو المهضومة حقوقهم. إذ نشأ فن الكتابة الذاتية فى الأدب الغربى من فكرة الاعترافات المترسخة فى الديانة المسيحية والتى ترتبط بالتطهر الروحى وراحة الضمير والغفران، وقد انتشر فى أوروبا خلال القرن التاسع عشر مع ازدياد النزعة الفردية والتطور الصناعى.. اعترافات القديس أوجستين أو جان جاك روسو أو أوسكار وايلد أدت حين صدورها إلى هزة فى أوروبا، فهى تنتمى إلى الصدق الذى يحدث صدمة فى المجتمع ويساهم على المدى البعيد فى إيقاظه من النوم. لذا فمن الطبيعى أن تصطدم هذه الكتابة بالمزاج العربى الذى يهرب من المكاشفة والمصارحة حتى لو كانت بهدف الخلاص، ففى هذه البقعة من العالم كل شىء يمارس فى ظل الابتعاد عن عيون الآخرين وفضولهم.. وحتى معظم كبار الكتاب الذين نشروا مذكراتهم الشخصية باللغة العربية لم يرقوا إلى درجة الاعتراف، مثل «أيام» طه حسين أو «أنا» عباس العقاد.. فقد كان هناك دوما مراعاة للقيود الاجتماعية تتعارض مع الجرأة المطلقة فى البحث عن الذات، فعندما نتحدث عن أنفسنا نتحدث أيضا عن الآخرين، ولكن دون الخروج من حقل الأدب إلى حقل الفضيحة.

 

تعودت درية الكردانى صاحبة «رمال ناعمة» أن تكتب ثلاث صفحات يوميا «على غير ريق»، أى بمجرد أن تستيقظ وقبل الانشغال بمهام حياتية، لتفرغ ما فى عقلها الباطن دون تفكير أو تحضير، وقد وصلت إلى درجة من النضج جعلتها تعى أنه لا مجال لتكرار الماضى أو العيش فيه.. وهى حقيقة ربما ينبغى أن نعيها نحن أيضا دون أوهام. ففى المسيحية تقسم الخطايا إلى نوعين: «خطيئة عرضية» يمكن مغفرتها بدون اعتراف، وأخرى «مميتة» لا تغفر سوى بالاعتراف.. لا يجب أن نضيع لحظة استثنائية للبوح بخطيانا واقتناص الصفح، وإلا تبتلعنا الرمال الناعمة المحيطة بنا من كل جانب، وننتهى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved