طبيب أرياف

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 22 أكتوبر 2020 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

هذا هو المقال الخامس الذي يبحث عن الشخصية القبطية في الأدب المصري بعد ثورة يناير، وكان قد مضي وقت طويل منذ آخر مقال في يونيو الماضي عن نفس الموضوع. ومقال هذا الأسبوع عن أحدث روايات محمد المنسي قنديل "طبيب أرياف" والصادرة قبل أيام عن دار الشروق. في هذه الرواية يبدو قنديل مخلصا لنكهته المميزة جداً في الكتابة، فهو السارح مع أبطاله في بلاد الله خلق الله بحثاً عن المجهول، فهو يسافر مع بطله الطبيب علي إلى أوزبكستان في روايته الأشهر "قمر علي سمرقند" حيث يوجد هناك السر الدفين، وهو يذهب إلى المكسيك مع أهل القبيلة الطيبين السود الذين يُستعبَدون ويساقون سوقاً لمعركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل في رواية "كتيبة سوداء"، وهو يصاحب الغجرية ورجال الشرطة إلى الصحراء بحثاً عن المفقودين من أهل القرية في "طبيب أرياف". وكعادته أيضاً يمرر لنا الرسائل السياسية بين السطور كرسالته الجدلية عن علاقة المصريين بالسلطة في ظل وجود "نوع من الخنوع يكمن داخل الچينات"، ويستخدم التضاد اللغوي بحرفنة فيصيح العجوز مهللاً "يادي النور يادي النور.. يحل علينا الظلام"، والجمل العربية الفصيحة كمثل جملة "رغم كل البرود في صوتها وتنئيها عني" أو "وجهه الداكن وغضونه الدفينة"، والتشبيهات الذكية كما في القول "هذه فئران الحقول، مثل أهل قريتنا منفوخين على الفاضي ".
***
تدور أحداث الرواية في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات مع اغتيال السادات وانتقال السلطة لمبارك، ومسرح الأحداث هو قرية من قرى الصعيد التي أُبعد الطبيب بطل القصة إلى وحدتها الصحية فيما بدا وكأنه تتمة لعقوبة سجنه، فالبطل كان قد قُبِض عليه فور تخرجه من كلية الطب بتهمة ممارسة الشيوعية. في الوحدة الصحية يلتقي الطبيب بنماذج مختلفة من البشر، شيخ العرب الذي يتاجر في البشر ويهربهم عبر الصحراء لدولة مجاورة بحثاً عن فرصة عمل، والغجرية التي تتردد مع قبيلتها على القرية من وقت لآخر فتحيي الأفراح والليالي الملاح، ومحروس عامل مكافحة البلهارسيا الذي شارك مع جمال عبد الناصر في حرب فلسطين حتى إذا صار جمال رئيسا أمر بإنشاء الوحدة الصحية خصيصاً من أجله، والمأمور الذي يتخذ من الوحدة الصحية مقراً لتزوير النتائج الانتخابية لصالح مبارك، والشيخ والشقي. وطبعا يلتقي الطبيب بفرح الممرضة التي تعمل معه ويقع في حبها لكن الظروف تعانده فلا تكون له ويُنقل من الوحدة الصحية بناء على طلبه، وهكذا يخسر حبه للمرة الثانية، أما المرة الأولى فكانت عندما حال سجنه دون الارتباط بفاتن الفتاة الأرستقراطية التي كان كلبها يرتدي سترة بنفس لون ثوبها.
***
أما الشخصية القبطية في عالَم بطل الرواية فإنها لأبانوب خياط القرية. أبانوب شاب ناحل حلو القسمات، مات والداه وهو صغير فرفضت الأسر القبطية تزويجه من بناتها لأنه مقطوع من شجرة، وتعلق قلبه بجليلة الأرملة المسلمة الموسرة وكان مستعداً أن يشهر إسلامه ليظفر بها، لكن هذا لم يحدث لأنه ببساطة لم يكن يغير من الأمر شيئا فالتقاليد هي التقاليد. تطورت علاقة أبانوب بجليلة وحملت منه سفاحاً، وهنا لجأت إلى طبيب الوحدة الصحية ليجهضها فأبى، ولم يمض وقت طويل حتى افتضح أمر العلاقة الآثمة. هجم أهل القرية على أبانوب دون هوادة، أركبوه حماراً بالعكس وراحوا يرجمونه بالطين والحصي، حتى إذا شارف على الموت نجح بعض شباب القرية في سحب الحمار إلى الطريق المؤدية إلى خارج القرية. نتوقف هنا لنعمل زووم على المشهد، وهو مشهد متكرر مع اختلاف التفاصيل في العديد من ربوع مصر: مسلمة تتعلق بقبطي أو مسلم يرتبط بقبطية فتتأجج المشاعر وتنطلق الفتنة النائمة، أما قبل ذلك فالأمور تجري بشكل طبيعي، أو ذلك على الأقل كان هو الحال في القرية التي هي مسرح أحداث الرواية. تقول الممرضة فرح "في هذه البلدة كلنا أقرباء حتى الأقباط أقرباء لنا بدرجة أو أخرى". ثم أن الكنيسة الكائنة في جوف الصخر التي يخيل إليك أنها كهف وما هي بكهف إنما تأوي عابري الصحراء المخيفة فيما الضباع خارجها تهيم بحثاً عن فريسة.
***
انطلقت إذن الفتنة دون سابق إنذار ومع انطلاقها ينمو الوعي بالتمايز الديني فيصرخ أهالي القرية الغاضبون "كافر.. كافر كأنها المرة الأولى التي يكتشفون فيها أنه على غير دينهم"، وفي الأثناء يختلط الحابل بالنابل. يتدخل الشيخ عبد البر شيخ الجامع محاولاً تهدئة روع الأهالي "توقفوا.. إنه من أهل الكتاب" فلا يتوقفوا، يسقط الشيخ وينهض ويسقط وينهض هاتفاً "دعوه يمضي.. دعوه يمضي" وهم على حالهم، أما ذلك الشاب الملتحي فيروح يصب الزيت على النار مستصرخاً الجموع "إنه ينتهك حرمة نساء المسلمين". يلفت النظر اختلاف الأجيال في التعامل مع الموقف، كما يلفت النظر غياب مسؤولي القرية: العمدة والخفر وكأنهم قرروا أن يسلموا الزمام للشارع. هذا النوع من المواقف يصعب أن يتأثر حتى بأحداث كبرى من قبيل ثورة يناير لأن التقاليد الاجتماعية لا تستسلم للتغيير بسهولة خصوصاً في الريف، وبالتالي فعلى الرغم من مرور نحو ٤٠ عاماً على ما حدث لازال هناك المئات من أمثال أبانوب وجليلة ممن يستحيل عليهم الارتباط بسبب اختلاف الدين، ثم أنه في رواية "طبيب أرياف" يظهر عامل إضافي يزيد الأمر تعقيدا ألا وهو ثروة جليلة التي يتربص بها أهل زوجها الراحل، وفي الأخير تنتهي القصة الحزينة بقتل جليلة على يد أهل زوجها. وبشيء من التزيد يمكن القول إن أبانوب في حبه جليلة هو الوجه الآخر لطبيب القرية في حبه فرح فكلاهما أحب حباً مستحيلاً، وكلاهما صار أباً من علاقة آثمة .
***
رواية محمد المنسي قنديل ككل رواياته ممتعة بفكرتها وغنية بأشخاصها، لكنها أيضاً كبعض من رواياته تتفرع إلى تفاصيل لا لزوم لها كحواديت الغجرية عن أبي زيد الهلالي، وتسهب إسهاباً شديداً في بعض المواضع كما في المسار الطويل الطويل لرحلة البحث عن المفقودين في الصحراء والذي يصلح أن يكون في حد ذاته بذرة لرواية منفصلة .

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved