من حسن الأسمر.. لحمو بيكا!

عماد الدين حسين
عماد الدين حسين

آخر تحديث: الخميس 22 نوفمبر 2018 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

فى أواخر شهر يوليو ١٩٩٠ زرت لبنان برا عبر نقطة حدود المصنع مع سوريا. الزيارة كانت لحضور معسكر الشباب القومى العربى الأول فى بعلبك بمشاركة من شباب بعض الدول العربية. وفى أحد الأيام زرنا أعمدة بعلبك الأثرية. الأتوبيس الذى ركبناه كان يقوده شاب فلسطينى من «حركة فتح ــ المجلس الثورى» التى كانت ذات شنة ورنة، ونفذت العديد من العمليات ضد إسرائيل وضد بعض قادة منظمة التحرير فى نفس الوقت!!.
السائق ومعه مجموعة من زملائه «المناضلين» كانوا يستمعون بأسى وتفاعل كامل لأغنية المطرب الشعبى المصرى الراحل حسن الأسمر «كتاب حياتى يا عين!!».
سمعة هذه الأغنية من وجهة نظر غالبية النخبة والمثقفين المصريين وقتها لم تكن جيدة. كانوا يرونها دليلا على الانحطاط وتدنى الذوق العام، وزحف العشوائيات الفنية على التحضر الفنى الرفيع. انطلاقا من هذا التوصيف والتحليل ذهبت إلى السائق الفلسطينى، وقلت له: كيف لثوار مناضلين مثلكم أن يستمعوا إلى هذه الأغانى الهابطة؟!.
كنت أعتقد وقتها ــ وأنا فى قمة النقاء الثورى من وجهة نظرى طبعا!! ــ أن المقاتلين الفلسطينيين يفترض أن يحاربوا العدو فقط، وإذا كان لديهم وقت فراغ، فعليهم أن يستمعوا لأشعار محمود درويش ومظفر النواب وأحمد مطر وأغانى مارسيل خليفة وأحمد فؤاد نجم أو الأغانى الوطنية، لفيروز وجوليا بطرس والشيخ إمام.
السائق صدمنى وقتها وقال: هذه أفضل أغنية تعبر عن حالنا كلاجئين فلسطينيين، والذى كتبها كأنه لاجئ مثلنا، فهى قراءة دقيقة وتشخيص محكم لأحوالنا، وأن صوت المطرب يقطر حزنا وأسى وشجنا!!.
تجادلت مع السائق ورفاقه كثيرا على مدى أيام، وفى النهاية وجدت أنه من العبث الإصرار على تغيير وجهة نظرهم.
حينما عدت للقاهرة، اشتريت شريط حسن الأسمر، وقررت أن أستمع إليه بهدوء وتمعن، وبالطبع فعلت ذلك متخفيا ومن وراء ظهر أصدقائى فى هذا الوقت، حتى لا يتم اتهامى بأن ذوقى الفنى قد أصابه الانحطاط والتدهور!.
حينما سمعت الأغنية، تفهمت لماذا أحبها الشباب الفلسطينيون.هم لم يكن يعنيهم هل هى راقية أم شعبية، ولم ينشغلوا وقتها بالجدل حولها فى مصر، كان يشغلهم فقط أن كلماتها الحزينة مع لحن مؤثر تمس وترا حساسا يذكرهم بقضيتهم، والظلم العارم الذى يتعرضون له منذ عام ١٩٤٨. والذى حدث أيضا أننى بدأت أنظر للأغنية بطريقة مختلفة، وكان أصدقائى وقتها يستغربون ذلك!!.
طبعا هذه الأغنية الآن تعتبر رائدة ونموذجية للأغانى الشعبية المحترمة جدا، ومن الظلم مقارنتها بأى أغان شعبية حاليا، فهى تعتبر شديدة الكلاسيكية، مقارنة بغيرها اليوم!!.
المفارقة التى لا يريد كثيرون ــ ممن يقولون عن أنفسهم نخبة ــ التوقف عندها، هى أنه فى السبعينيات كانوا يعاملون أغانى أحمد عدوية وكتكوت الأمير، باعتبارها متدنية، وعندما جاءت التسعينيات صار عدوية رائد الأغنية الشعبية، والآن نترحم على أيام حسن الأسمر فى التسعينيات. وإذا سرنا بنفس الطريقة والمعدل، فربما بعد عشرة أو عشرين عاما، قد نترحم على أيام حمو بيكا وشطة وبقية رموز المهرجانات!!.
كل كلامى السابق لا يعنى شجبا أو تأييدا لأغانى المهرجان، بل ضرورة التوقف عندها وفهم سياقها بدلا من الاكتفاء بلعنها.
لو كان اللعن والحسبنة ولطم الخدود وشق الجيوب ينفع، لكنا تمكنا من تحرير فلسطين، لكن الأمور لا تسير بمثل هذا الاستسهال والتسطيح!!.
هذه الأغانى باختصار هى وليدة مجتمعها، وانعكاس حقيقى لفكره وثقافته وقيمه، وبالتالى بدلا من أن نلوم هؤلاء، علينا أن نلوم أنفسنا أولا ونسأل من الذى تسبب فى انهيار التعليم وشيوع العديد من القيم السلبية؟!
هل هو حمو بيكا، أم الحكومات المتعاقبة وسائر قوى المجتمع الحية؟! أليس بيكا ورفاقه، نتيجة طبيعية لتكدس الفصول وتسرب التلاميذ، وانهيار الصحة وسائر الخدمات، والبناء العشوائى الذى أفرز كل ما هو عشوائى فى كل المجالات؟!.
مرة أخرى بيكا وشطة ضحايا ونتيجة طبيعية لمجتمعهم.. والجانى الحقيقى هو السياسات المتراكمة التى قادتنا إلى هذا الدرك الأسفل منذ عقود طويلة!.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved