فى بناء «مجتمعى»

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الخميس 22 نوفمبر 2018 - 10:21 ص بتوقيت القاهرة

فى اللغة الإنجليزية مصطلح يستخدم للتعبير عن المجتمع وأيضا للتعبير عن مجموعة من الناس اختارت أن تشترك فى فكرة أو مكان أو طريقة للحياة. فيصبح مثلا هناك مجتمع ينتمى لمدرسة فى الحى، أى الطلاب وعائلاتهم، أو مجتمع يؤمن بفوائد رياضة اليوجا فإما يمارسونها مع بعض أو يتحاورون حول جوانبها المختلفة، أو مجتمع يعيش ضمن مجموعة سكنية يفرقها سور كبير عن باقى المدينة فيتشاركون فى الأرض والمرافق العامة.
***
أنا أفكر منذ مدة بفائدة أن ينتمى أشخاص متشابهون فى الرؤية أو فى طريقة الحياة لمجتمع محدد. ماذا يعنى أن أكون محاطة بأشباهى من الناس فيما يتعلق مثلا بعلاقتى بالدين أو بالبيئة أو بالمطبخ؟ ماذا يحدد اختيارى لمن أمضى معهم بعض الوقت؟ هل العلاقات الإنسانية مبنية حتما على مبادئ أو أفكار أو أساليب للعيش يجب أن تكون متشابهة أو على الأقل أن تتقاطع؟ يعنى هل من الممكن أن تربطنى علاقة بشخص لا أشبهه فى أى شىء؟ لا نتشارك أى تجربة ولا تضمنا أحلام متشابهة نحاول تحقيقها ولم نكبر فى نفس المكان أو ندرس فى مدرسة أو جامعة واحدة؟
***
درج أخيرا فى بعض الأوساط الاجتماعية فى مصر مفهوم «المجتمع» للدلالة على مجموعة أشخاص أو عائلات يتشاركون مساحة يعيشون فيها، فيبنون بيوتا بينها مرافق تخدم كل السكان ويتكلم أحدهم باسم المجموعة حين يصف أسلوب حياة أو تغييرات يجب الاضطلاع بها. وباتت إعلانات ملونة تظهر للناس محاسن الانتماء إلى «مجتمع» سكنى، مستخدمة صورا هى غالبا أبعد ما يكون عن الطراز المعمارى والبصرى المألوف للمصريين، لكنها لوحات إعلانية تعد ركاب الحافلات العالقين فى جحيم زحمة المدينة بحياة أكثر براحا وهواء أكثر نقاء ووحدات سكنية أكثر راحة، والأهم من ذلك «مجتمع» متشابه يتوق إلى الميزات نفسها فيشارك المساحة.
***
أحاول أن أتخيل «مجتمعا» أبنيه كما يحلو لى فى الأيام التى أستيقظ فيها بمزاج وحدوى لا يحتمل حتى أن يلقى على أحدهم السلام. من هم الذين أريدهم من حولى؟ طبعا بإمكان القارئ أن يستغرب من سؤال شخص يستيقظ بمزاج يتوق إلى العزلة لكنه يحاول خلق مجتمع منتق كي لا يبقى وحيدا. أنا شخص اجتماعى أؤمن بأنه من المستحيل أن أعيش خارج المجموعة ولا أقدر على الصمت أكثر من دقائق. لذا فقد توصلت أخيرا إلى تعريف تقريبى لما أحتاجه، وهو أن أعيش وسط مجتمع تحكمه قواعد واضحة عن حرية الفرد كما تكفلها المجموعة، وسط سلسلة من اللقاءات والمناسبات التى قد تنظم حول مواضيع فى نطاق واسع، من السياسة إلى المطبخ، من ألوان الخريف إلى علم النفس، من الموسيقى إلى صناعة الفخارــ أيجب أن يوضع حد للمواضيع؟
***
ما علينا، أريد مثلا عمارة سكنية فى بلد جوه نظيف. فكرت فى أيسلندا، وتخيلت مجموعة بيوت وسط حدائق وأشجار قرب شارع مكتظ، إذ ليس بإمكانى أن أعيش فى الريف، وأحتاج ضوضاء ومعالم حياة مدينية. أيسلندا إذا، لكن مدة الشتاء القارس أربكتني. أريد فصولا أربعة وأريد فترة شتاء لكن ليس بالضرورة أن يكون شتاء موحشا كذلك الذى يجتاح البلاد الإسكندنافية.
***
لنقترب من حوض المتوسط، إذ إننى يجب أن أتمركز قريبا من أشجار الزيتون. لنعد التفكير إذا: بيوت بحدائق فيها أشجار التين والتوت والبرتقال. البيوت ليست بالضرورة كبيرة أو فخمة إنما تدخلها الشمس فيسدل أصحابها فيها ستائر بيضاء فى الصيف ويرفعونها فى الشتاء. أرضيات البيوت على الأغلب تظهر بلاط مربع الشكل مزركشا بألوان بهتت بعض الشىء لكن يطغى عليها اللون الأزرق. من هم الجيران؟ مجموعة متنوعة لكن يجب أن يربط بينها شىء. ما هو؟ لنقسم السكان إلى مجموعات أصغر، بعضها يحب الكتب والسياسة والبعض الآخر يبرع فى تنظيم المناسبات الاجتماعية، هناك أيضا مجموعة يعزف أفرادها الموسيقى، ويا حبذا إن كانوا يجيدون إحياء الأغانى التراثية القديمة بإيقاعات جديدة. قد يكون أحدهم موسيقيا ويحب القراءة. أو طباخة ماهرة ومحللة سياسية متحمسة لقضاياها. قد نطبخ على أنغام العود أو نتشاجر ونتصالح فوق قدر نرمى فيه فصوص الثوم فتملأ المكان رائحة «التقلية».
***
فى «المجتمع» أى المكان هناك سوق للخضار وآخر للخبز، هناك رجل حلبى الأصل يصنع مربى الباذنجان المحشى بالجوز والقرفة. هو يتكلم عدة لغات بطلاقة ويناقش الأدب الروسى أثناء كيله للمربى. ابنته رسامة تملأ حيطان البيوت بألوان فرحة طول أيام السنة. أما ابنه فهو سياسى محنك يملك من الكاريزما ما يجذب السكان إلى خططه. يقطف أولاد «المجتمع» الجوز وهو أخضر، ويلف آخرون ثمار الشجر بأوراق جرائد عليها أسماء بعض السكان، نعم فبعضهم كتاب.
***
فى «المجتمع» تقاطعات قد تبدو غريبة التركيب، بين أفرادها ما يكفى من الاختلاف لتبديد إمكانية الملل الجماعى، وما يكفى من التشابه لئلا يضطرون أن يذكروا بقوانين المجموعة طول الوقت. هى بيوت شبابيكها مفتوحة على يوم ربيعى يكاد أن يصرخ بالسكان «اغلوا القهوة واسحبوا الكراسى إلى مكان تحت الشجر، اليوم يوم الحكى والموشحات والضحك وطبخ الفاصولياء الخضراء فى الكثير من زيت الزيتون».
ها أنا أبنى «مجتمعا»، بانتظار أن ينضم إلىّ من يحب أن يكون جزءا منه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved