تحية لجامبيا ونائبها العام

سيد قاسم المصري
سيد قاسم المصري

آخر تحديث: الجمعة 22 نوفمبر 2019 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

أثارت جامبيا ــ وهى من أصغر الدول الإفريقية مساحة وسكانا وأقلها مواردا ــ دهشة الكثيرين بتقدمها بطلب للمحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق فى المذابح والفظائع التى ارتكبتها ميانمار ضد الأقلية المسلمة هناك والتى تعرف باسم الروهينجيا.. استنادا إلى ما ارتكبته ميانمار يعد جريمة من جرائم إبادة الجنس التى تختص بها المحكمة..

هذه الخطوة التى تمت هذا الأسبوع ستعيد القضية إلى الأضواء ولسنوات قادمة بعد أن اطمأنت ميانمار إلى أن القضية قد دخلت فى ثنايا النسيان وأن العالم قد انشغل بقضايا أخرى..

وقد أعربت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية ذائعة الصيت ــ وهى التى أوردت الخبر ــ عن دهشتها لتصدى أصغر الدول الإسلامية والإفريقية حجما ومواردَ لهذه القضية التى تتعلق بأحداث وقعت فى منطقة تبعد عنها سبعة آلاف ميل ولا توجد أى صلات من أى نوع بين الدولتين.. وكان المنطق ــ فى رأى الواشنطن بوست ــ يقضى بأن تقوم بهذه المبادرة إحدى الدول الإسلامية الكبرى التى تملك الموارد المادية والإمكانات والتى لها احتكاك مباشر بالمنطقة لأن مثل هذه القضايا تتطلب أموالا كثيرة تصل إلى ملايين الدولارات كما تتطلب الاستعانة بمكاتب قانونية دولية ومثابرة طويلة..

وقد قامت الصحيفة بطرح هذه التساؤلات على النائب العام فى جامبيا وهو وزير العدل فى نفس الوقت ويدعى أبو بكر تامبادو فقال إنه قرأ تقرير الأمم المتحدة الذى وصف المجازر بأنها تطهير عرقى يرقى إلى كونه جريمة إبادة جنس والتى نتج عنها قتل عشرات الآلاف بعضهم أحرق حيا داخل منازلهم وإجبار 700 ألف على الفرار إلى بنجلاديش، وأضاف أن ذلك أعاد إلى الأذهان المجازر التى حدثت فى رواندا حيث كان ــ أى السيد تامبادو ــ أحد المحامين فى محكمة رواندا الدولية وشاهد كيف فشل العالم وتأخر فى المساعدة عام 1994 وها هو يفشل الآن فى حماية شعب مهدد بالإبادة..

أبو بكر تامبادو أخذ المبادرة وقرر الذهاب بمفرده لزيارة معسكرات اللاجئين الفارين واستمع إلى قصص القتل والاغتصاب والتعذيب وحرق المزارع وحرق الأسر أحياء داخل البيوت وهدم القرى وإزالتها من الوجود، ثم عاد إلى بلاده وأقنع حكومته برفع دعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية التى تختص بثلاثة أنواع من الجرائم فقط هى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بالإضافة إلى جريمة إبادة الجنس.

***
أنا أتفهم الدهشة التى أبدتها جريدة واشنطن بوست.. فقد كان من المنطقى أن تتصدى لهذه المهمة إما منظمة التعاون الإسلامى أو إحدى الدول الكبيرة الأعضاء بالمنظمة.. وأتفهم دهشة الجريدة من أن الذى انبرى للقضية هى أصغر الدول الإسلامية وأكثرها فقرا وأبعدها مكانا عن المنطقة..

ولكنى لا أشارك الجريدة فى دهشتها حيث أرى أن القرب المكانى أى الانتماء إلى المنطقة وتشابك الروابط والعلاقات الاقتصادية والسياسية والمالية والاستثمارات هى التى حالت دون إقدام الدول الفاعلة بالمنظمة على اتخاذ هذه الخطوة..

فالدول القريبة من ميانمار جغرافيا مثل أندونيسيا وماليزيا وبروناى تربطها علاقات جمة بميانمار تكبلها وتحد من حركتها.. حتى بنجلاديش ــ التى تنتمى عرقية الروهينجيا لها تاريخيا لأن أجدادهم نزحوا من البنغال من مئات السنين ــ تتحسب فى اتخاذ مثل هذه الخطوة خشية آثارها على أبعاد كثيرة من العلاقات المتشابكة..

وكذلك دول الخليج القادرة اقتصاديا لها حساباتها أيضا.. وقد شاهدت بنفسى عندما كنت أباشر شئون الأقليات الإسلامية كمستشار لمنظمة التعاون الإسلامى ولاحظت كيف يلعب المال والأعمال والاستثمارات الدور الأكبر فى تشكيل مواقف الدول..

فهناك استثمارات خليجية حكومية ضخمة وكذلك استثمارات لرجال أعمال فى دول الآسيان تلقى بثقلها على صانعى القرار.. أذكر على سبيل المثال دولة خليجية صغيرة انبرت تعارض بحماس مشروع قرار يتعلق بحقوق الأقلية المسلمة فى تايلاند واتضح فيما بعد أن للطبقة الحاكمة فى هذه الدولة مصالح مالية كبيرة فى تايلاند وبالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية فهناك العلاقات السياسية الخاصة التى تجعل دولة مثل باكستان تتصدى لقرار يدافع عن حقوق المسلمين فى الصين.. خشية أن تفقد دعم الصين لها سياسيا واقتصاديا.

أخلص من هذا.. أن عدم وجود علاقات لجامبيا مع ميانمار يخلصها من كل هذه القيود.. ولكن يبقى السؤال ما الذى يجعل جامبيا تقدم على هذه الخطوة التى ستكلفها الملايين وهى الدولة التى لا يزيد حجم الناتج المحلى الإجمالى لديها عن مليار دولار واحد والتى يبلغ متوسط دخل الفرد فيها 400 دولار فى السنة.. أتمنى أن تكون منظمة التعاون الإسلامى وراء هذا التحرك.. لأن ما قامت به جامبيا يستحق الإشادة والدعم حيث سيعيد تسليط الضوء على معاناة الروهينجيا التى وصفها أحد تقارير الأمم المتحدة بأنها «أبشع ما تعرض له بشر فى العصور الحديثة، وإن لم تكن المنظمة وراء هذا التحرك فإننى أطالبها والدول القادرة ماليا بدعم هذا التحرك وعدم ترك جامبيا لتحمل هذا العبء وحدها.

***
هناك عائق إجرائى يتمثل فى أن ميانمار لم تنضم إلى المحكمة الدولية ولم تكن طرفا فى مؤتمر روما الذى أنشأ المحكمة، ولكنى قرأت أن هناك مخرجا قانونيا يتمثل فى كون ميانمار منضمة إلى الاتفاقية الخاصة بتجريم إبادة الجنس.

تحية لجامبيا ونائبها العام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved