صاحب «خافية قمر».. الذي لا أنساه

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: الجمعة 22 نوفمبر 2019 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

لا أصدق أن خمسة أعوام مرت على رحيله بهذه السرعة القاسية!

كنت أستعد لإصدار كتابى الأول «مشاغبات مع الكتب»، أحاول أن أتغلب على حزن جاثم، ثقيل، منذ أن توفى الكاتب والروائى الكبير محمد ناجى فى 20 نوفمبر 2014، ترك رحيله ألمًا رهيبًا، ومساحات واسعة اتشحت بالسواد فى نفوس كل من اتصل به وعرفه عن قرب وأحبه بصدق.. «شخصية استثنائية بكل المعايير، يستحيل أن تصدق إذا جلستَ معه أنه مريض، مثقف من طراز رفيع، يعشق وطنه وناسه، ليست لديه ذرة من تصنع، ينضح رقة وإنسانية، رحمه الله بقدر ما نشره من سعادة وجمال فى حياتنا، وفى حياة قرائه وأصدقائه»، هكذا يصفه بصدق محمود عبدالشكور شريك محبته وزياراته الأخيرة قبل رحيله.

كل من زار محمد ناجى فى رحلته الأخيرة لمصر فى أغسطس 2014 (كانت إجازته الأولى والأخيرة بعد ما يقرب من خمس سنوات قضاها فى باريس وحيدًا للعلاج)، أجمع أنها كانت «رحلة الوداع» أو كما سماها صديقه القديم، الشاعر المبدع زين العابدين فؤاد (حجة الوداع). كانت فرحته بزيارات أصحابه وأحبابه له لا تقدر بثمن، والوقت معه يمر بسرعة مذهلة، يقول بعضهم «ولكننا قضينا معه وقتا ممتعا لا ننساه».

وحتى فى باريس، وخلال السنوات التى قضاها هناك، أحاطته وجوه أليفة محبة، غمرته بمودتها ونعمت بصحبته، لكن دون أن يخلو الأمر من منغصات وأوجاع صغيرة لم يكن أبدا يشير إليها، ولا يحب أن يتحدث عنها. كان شخصية استثنائية، فى حياته، ومرضه، وحتى مماته، ظل حتى آخر لحظة قادرا على بث طاقة رهيبة من الحب والأمل والتفاؤل، فيض سلام روحى ونفسى يغمر كل من يلقاه ولو للمرة الأولى، يحتفظ بحضوره وألقه الذهنى، ذاكرته حية لا تنضب ولا تجف ولا يخفت بريقها، قوته الداخلية مذهلة وإبداعه كان سلاح مقاومة حقيقيا، مكنه من مقاومة المرض اللعين لسنوات قبل أن يستسلم ويرفع الراية.

منذ رحيله المفجع، وأنا تقريبًا لا أفارق ما كتب.. إبداعًا، مقالات، حوارات أو أحاديث.. غياب ناجى جسديا لم يحل دون حضوره بقوة وفعالية فى روحى وعقلى، وبعيدًا عما مثله فقد ناجى لى على المستوى الإنسانى، فإننى حاولتُ أن أتغلب على حزنى بمطالعة وقراءة إبداعاته الأصيلة (رواياته المطبوعة 8، وكتاب نثر شعرى بعنوان «تسابيح النسيان»)، أعيد قراءة أعماله كطقس «تنفيسى» أو «تعويضى» ربما، إذا جاز التعبير.

انتهيت من «خافية قمر»، دَانَتُه الأولى التى فجَّرها فى وجه «الأرباع» وعديمى الموهبة، وفرغت من تحفته القصيرة المكيرة اللاذعة الفاتنة «لحن الصباح» أكثر من مرة، ثم بقية الأعمال.. هكذا تُكتب الروايات، هكذا يقول الفنان دون أن يقول أى شىء! فقط يروى الحكايات ويقص القصص و«الحدق يفهم».. المهم أن يكون فيه «حدق» وبيفهم.. هذه حكمة «فانوس» الحكاء، حارس الحكايات والأساطير آخر سلالة بنى عبد.. لا يكذبون، ولكنهم يروون الحكايات!

بالتوازى مع قراءة الأعمال الروائية، أعدتُ قراءة كل ما كتبه ناجى عن تجربته الإبداعية وتصوراته عن الكتابة عموما وفن الرواية بالأخص، سواء منها ما سجله فى «شهادات روائية»، أو بثه منشورا فى حوار أو حديث صحفى، هنا أو هناك.

ذهلت وأنا أقرأ تراث ناجى على هامش إبداعه، لم يكن مثقفا من عيار ثقيل فقط، بل كان فيلسوفا متأملا، ذا قدرة تحليلية فائقة، لا تقل عنها قدرة أخرى فى التجريد واستخلاص الأفكار الكبرى وصياغة تصورات ناضجة ومعمقة حول الحياة والفن والإنسان (أزعم أنها تشكل خيوط نظرية كاملة فى الفن والإبداع الأدبى).

الكتابة عنده «صنعة قلق»؛ بمعنى «إعادة فحص القناعات المستقرة على ضوء المعطيات المستجدة والأحلام المتجددة. ليست فاعلية المبدع فى أن يُرضى أو يصفق، ولا فى أن يكون مكملا غذائيا لسلطة حاكمة أو لاتجاه سياسى، وإلا أصبح دوره إعلاميا لا ثقافيا. دوره الحقيقى أن يسكن المساحة التى لم تتحقق من الحلم، وأن ينبه ويحذر».

خمس سنوات لم تفارقنى فيها روحك ولا طيبتك وسماحتك، خمس سنوات كان حضورك فيها ملء السمع والبصر، جعلتنا نحبك فوق ما أحببناك.. سلاما لك واهنأ فى رقادك، فروحك لم تغادر، تطمئننا من حين لآخر، وبعين الخيال تمنحنا ابتسامتك الصافية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved