الرسوم الحمائية ضرورة أم عقبة؟

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 22 نوفمبر 2021 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

الأصل فى التجارة أنها حرة غير مقيدة بأية قيود كمية أو كيفية، ومبادئ الاقتصاد الحر تشجع على إطلاق حرية حركة البضائع والأشخاص عبر الحدود بما يعزز من المزايا النسبية والتنافسية للدول. لا أحد يحب أن تظل الصناعة المحلية محمية بقرارات وقيود تعصمها من المنافسة مع المنتج الأجنبى. لكن هناك فرقا كبيرا بين ما تفرضه النظرية والمبادئ المجردة، وما يستدعيه الواقع العملى على الأرض.
حينما قامت وزارة التجارة والصناعة بفرض رسوم حمائية على بعض المنتجات المستوردة سواء الوسيطة أو نهائية الصنع من الصلب والألومنيوم، تسبب ذلك فى إثارة جدل كبير ظاهره حرية التجارة، وباطنه صراع قديم حول مدى تعميق وتوطين الصناعة المصرية، وأثر ذلك على سلاسل الإمداد، وخلق فرص العمل، والتوجه نحو التصدير والإحلال محل الواردات... إلى غير ذلك من عناوين كلية هامة، لا يمكن أن يتجاهلها صانع القرار الاقتصادى فى مصر.
لتوضيح ذلك سوف نتعرض فى هذا المقال إلى لمحة من الخلاف الذى نشب فى مجال صناعة الحديد والصلب بين طائفة المدرفلين من جهة، وبين أصحاب المصانع المتكاملة ونصف المتكاملة من جهة أخرى. وكذلك الخلاف الذى نشب بين مجمع الألومنيوم، وبين جميع المصنعين المحليين لمنتجات الألمنيوم المختلفة والتى تقع عند ما يمكن وصفه بمرحلة المصب الإنتاجى downstream بسلسلة الإمداد.
•••
بداية أسجل تقديرى لكل أهل الصناعة فى مصر، وخاصة الصناعات الثقيلة وكثيفة استخدام الطاقة، نظرا للظروف القاسية التى يعملون بها، وكثرة التقلبات والتحديات التى تواجههم طوال الوقت مع تقلبات أسعار صرف النقد الأجنبى، ومنتجات الطاقة وخاصة الكهرباء والغاز الطبيعى. ليس المطلوب أن تتحول كل المصانع إلى خطوط إنتاج لصناعات متكاملة، بل على العكس، فالعالم يتجه أكثر فأكثر نحو تعزيز التخصص الدقيق فى مرحلة أو منتج وسيط، لكن هناك العديد من الصناعات الاستراتيجية التى سعت مصر إلى توطينها بشكل متكامل منذ عقود طوال، ومنها صناعات الصلب والألومنيوم والسبائك الحديدية. الطبيعة الاستراتيجية لتلك الصناعات مدارها توقف العديد من الصناعات على مخرجاتها، وعدم فاعلية الاعتماد على استيرادها فى فترات نقص المعروض العالمى من منتجاتها النهائية، الأمر الذى لمسناه بقوة فى فترة الأزمة الأخيرة لجائحة كوفيدــ19. كذلك يعزز من تلك الطبيعة الاستراتيجية الاعتماد الكثيف لهذا النوع من الصناعات على عنصرى العمل ورأس المال، الأمر الذى له العديد من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لقرار إغلاق أو توقف أى من المصانع.
الأزمة فى قرارات الرسوم الحمائية والتى تصدر على فترات لحماية السوق المحلية من إغراقه بمنتجات مستوردة، والتى تختلف عن رسوم الإغراق التى تفرض بعد تحقيق ووفقا لإجراءات طويلة تنظمها اتفاقات التجارة الدولية والإقليمية، أن رسوم الحماية يقف خلف فرضها طائفة من المصنعين يقدمون قضية عادلة وملفا منصفا لمنافسة منتجات نهائية الصنع ومدخلات إنتاج مستوردة لمنتجهم المحلى المنتج بالكامل أو بشكل جزئى فى مصر، وبقيمة مضافة كبيرة نسبيا. بينما يعارض تلك الرسوم طائفة أخرى من المصنعين أيضا والتجار الذين يقبلون على استيراد المنتج بغرض الإتجار فيه سواء على حالته (نهائى الصنع) أو بعد إضافة مرحلة أو أكثر من التصنيع فى سلسلة الإمداد تضيف قيمة إلى هذا المنتج، ولكنها بالطبع ليست فى حجم القيمة المضافة للصناعات المتكاملة ونصف المتكاملة.
بالنسبة لصناعة الصلب لا أحد يمكنه أن يزعم أنه يقدم صناعة متكاملة فى مصر بداية من خام الحديد مرورا وانتهاء بمنتجاته المختلفة من مربعات ومسطحات وقضبان وكمرات وحديد تسليح... باستثناء شركة الحديد والصلب المصرية، التى هى اليوم تحت التصفية، والتى أفردنا لها سلسلة من المقالات أرجو من القارئ الكريم الرجوع إليها لمزيد من التفاصيل. أما سائر الشركات الأخرى التى توصف بأنها تقدم منتجا متكاملا أو نصف متكامل فهى فى كل الأحوال تعتمد على منتج مستورد أو متوافر محليا (بصورة جزئية) من خردة الحديد أو مكوراته والحديد الإسفنجى... ولكنها تمتلك خطوط إنتاج ضخمة وكبيرة وتقدم للسوق المحلية وسوق التصدير تشكيلة كبيرة ومتنوعة من المنتجات، ومن ثم فهى تستوعب الآلاف من الأيدى العاملة وتسدد للدولة مليارات الجنيهات فى صورة ضرائب ورسوم وقيمة استهلاك لمنتجات الطاقة وخدمات البنية الأساسية... بما يثقلها فى ميزان الناتج المحلى الإجمالى، ويرسم لها دورا اقتصاديا كبيرا، بخلاف الدور الإنتاجى الهام والمساهمة المباشرة فى بنية الاقتصاد الجزئى.
•••
فى المقابل هناك العديد من مصانع الدرفلة الهامة التى تعتمد على استيراد المربعات من الخارج، وتنتج حديد التسليح المطلوب لحركة البناء والعمران فى مصر. وإذا كانت الطاقة الإنتاجية لمنتج حديد التسليح فى مصر تزيد على حجم السوق بما يقرب من 50% فإن كثيرا من تلك الطاقة معطلة نظرا لأن تكلفة الإنتاج تجعل المنتج غير قادر على منافسة المنتج النهائى من الخارج، الأمر الذى جعل الدولة تنتبه إلى ضرورة فرض رسوم وقائية على المنتج النهائى أكبر من تلك التى تفرضها على المربعات المستوردة والتى يضاف لها قيمة تصنيعية محلية. وفى كل الأحوال تتعارض مصالح المدرفلين مع أصحاب المصانع المتكاملة ونصف المتكاملة فى كونهم لا يريدون استيراد منتجهم الوسيط (المربعات) وقد تم تحميله برسوم إضافية ترفع من تكلفة إنتاجهم، كما تتعارض مصالحهم مع التجار والمقاولين الذين من مصلحتهم استيراد حديد التسليح كمنتج نهائى من الخارج بغير رسوم حمائية! أى أن المدرفلين لن يقفوا ضد فرض رسوم حمائية على منتج حديد التسليح، ولكنهم يعترضون على فرض رسوم على منتج المربعات. هذا يعيدنا إلى بداية المقال التى أشرنا فيها إلى أن الخلاف ظاهره حرية التجارة، لكن باطنه أمور أخرى شديدة التعقيد.
وإذا نظرنا إلى الملابسات التى حدت بوزارة التجارة والصناعة إلى الرضوخ إلى رغبة المصانع المتكاملة ونصف المتكاملة فى فرض رسوم حماية سنجد أنها لا تنبع من كون تلك الصناعات وليدة ناشئة فى مصر، أو أنها صناعات لا تقوى على المنافسة مع المنتج الأجنبى لعيوب فى هياكلها الإنتاجية أو التسويقية أو هيكل التكاليف (معاذ الله) بل هى مصانع لشركات عالية الكفاءة، أحدها تمكن من تصدير منتجات لهذا العام وحده بمليار دولار!! والدول المستوردة ليست بالدول التى تتهاون فى جودة المنتجات، بل هى دول أوروبية (فى مقدمتها إيطاليا وإسبانيا) وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية التى تحل ثالثة فى قائمة الاستيراد!... لكن تلك المصانع التى تمكنت هذا العام من التصدير وتحقيق أرباح كبيرة بعد خسائر مليارية فى أعوام سابقة عند دورات الخسائر المعتادة، تعانى من تقلبات محلية أكبر من تلك التى تواجهها بفعل أسعار المنتج النهائى ومدخلات الإنتاج فى بورصات المعادن العالمية. فهى تعانى منذ سنوات من ارتفاعات كبيرة ومتتالية فى أسعار الطاقة التى تم تحريرها بشكل شبه تام فى إطار برنامج الإصلاح الاقتصادى، وأصبحت تكاليف الإنتاج مرتفعة للغاية بالمقارنة بتكاليف الإنتاج فى دول أخرى (مصدرة لمصر) تنعم فيها الصناعات الثقيلة بمزايا الدعم المباشر وغير المباشر.
•••
هنا كان قرار الدولة فى مصر قرارا حكيما كونه مرتبطا بأسباب منطقية وخارجة عن إرادة المصنع الوطنى، وأنه مؤقت فلا يتعدى على الاتفاقات الدولية، وكونه يأخذ فى الاعتبار الأهمية الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة لاستمرار تلك المصانع فى مصر. لكن قرار رفع الرسوم جاء أيضا مبررا بمنطق اقتصادى سليم، فقد أتى على خلفية موجة تضخمية كبرى تواجه العالم، وتهدد المستهلك النهائى فى مصر بارتفاع كبير فى تكلفة مواد البناء، وتهدد مصانع الدرفلة بغلق أبوابها لو أنها تعرضت (فضلا عن ضغوط زيادة تكاليف الإنتاج بالكامل ومنها تكلفة الطاقة) إلى رسوم إضافية تجعل المنتج الوسيط المستورد أكبر من مثيله فى سائر دول العالم! هى إذن معضلة تواجهها أيضا الشركة المتكاملة الوحيدة لتصنيع الألومنيوم فى مصر (لا تستورد إلا خام الألومينا الذى لا يوجد فى أرضنا) والتى تعانى من كونها تقف وحيدة مطالبة بحماية صناعتها، إذ إن سائر صناعات إنتاج الألومنيوم فى مصر تعتمد على منتج مصر للألومنيوم أو مثيله المستورد بغرض الدرفلة والتشكيل فى منتجات نهائية للمستهلك. والأزمة فى مصر للألومنيوم أنها أصبحت وفقا للتقارير الدولية صاحبة أعلى سعر كهرباء بين كل مصاهر العالم، علما بأن الكهرباء فى صناعة الألومنيوم ليست مصدرا للطاقة وحسب، بل هى مدخل للإنتاج وبنسبة تقترب من 40% من تكلفة الإنتاج، وقد جاء قرار فرض رسوم حماية على منتجات الألومنيوم المصنعة متأخرا بعد أن تحولت الشركة إلى الخسائر بفعل فاتورة كهرباء سنوية تزيد على 5.5 مليار جم (عوض تلك الخسائر جزئيا قرار خفض سعر الكيلووات/ ساعة بعشرة قروش للجهد الفائق). والشركة التى يعمل بها نحو سبعة آلاف عامل معروفة بجودة منتجاتها وقدرتها على التصدير لأسواق أوروبا وأمريكا، وهى تحتاج دائما إلى التصدير لتوفير عملة صعبة لاستيراد خام الألومينا.
كيف تتصرف الدولة إذن أمام تلك المعضلة؟ وما هى التوازنات المطلوبة لاتخاذ قرار بفرض رسوم حماية أو رفعها؟ هذا أمر يضيق به المقال الحالى، لكن فى إشارة سريعة ينبغى أن توضع تكلفة وإيرادات هذا النوع من القرارات على نموذج للتوازن العام، يبين العائد الصافى لتلك القرارات على الناتج المحلى الإجمالى وعلى مستوى التشغيل، خاصة أن الأزمة الاقتصادية العالمية المرتقبة هى مزيج من التضخم والكساد فيما يعرف بالكساد التضخمى الذى يجب أن تستعد له كل الدول... وللحديث بقية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved