سلطة المال وقضايا الإصلاح فى مصر

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الثلاثاء 22 ديسمبر 2009 - 9:42 ص بتوقيت القاهرة

 حسنا فعل الدكتور محمد البرادعى بإصراره على ضرورة الإصلاح الدستورى فى مصر كأحد شروط قبوله الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة. لأنه كما جاء فى مقال سابق لكاتب هذه السطور من المستحيل أن يجرى فى مصر تطور ديمقراطى فى ظل الدستور القائم بالتعديلات التى جرى إدخالها عليه فى سنة 2007، والتى تجعل الترشح لمنصب الرئيس وقفا فى واقع الأمر على موافقة الحزب الحاكم، وتطلق فترات تولى رئاسة الجمهورية، وتترك إدارة العملية الانتخابية تماما فى أيدى أجهزة الإدارة، وتقصر دور القضاء على الوجود فى كل دائرة، بينما يجرى تزوير إرادة الناخبين فى اللجان الانتخابية. ومع أهمية هذه القضايا فى أى مناقشة لتعديلات دستورية أو عند صياغة دستور جديد، إلا أنها لا تجمل أبعاد الإصلاح الدستورى والسياسى المطلوب. فلاشك أن بقاء النظام الحاكم فى مصر وبكل بعده عن أبسط مقتضيات الديمقراطية يستند إلى التأييد الذى يحصل عليه من كبار رجال الأعمال، والذين يوجدون بقوة فى الهيئات القيادية للحزب الحاكم، وفى رئاسة وعضوية اللجان المهمة فى مجلسى الشعب والشورى، وداخل مجلس الوزراء، فضلا عن ملكية العديد من الصحف وقنوات التليفزيون، وكذلك تمويلهم لمراكز بحثية، والدور النشط للمنظمات الأهلية التى تنطق بأسماهم، والتى تضم اتحاد الصناعات والغرف التجارية والمنظمات العديدة للمستثمرين.

والحقيقة أن النشاط السياسى لرجال أعمال القطاع الخاص لا يمكن فى حد ذاته أن يكون موضع استنكار أو إدانة أو شجب، فهم مواطنون لهم كامل حقوق المواطنة التى يجب أن يتمتع بها كل من يحمل جنسية هذا الوطن، أيا كان حظه من الثروة أو طبقته الاجتماعية أو عقيدته الدينية أو مذهبه السياسى. ولكن تطور العلاقة القائمة بين كبار رجال الأعمال وحكومات الحزب الوطنى الديمقراطى أبعد ما يكون عن علاقة صحية بين الحكومة والقطاعات المختلفة من المواطنين، مما يستدعى إلى الأذهان ضرورة الاسترشاد بواحد من المبادئ الستة لثورة 23 يوليو، وهو ضرورة مكافحة سيطرة رأس المال على الحكم، ليس فقط لضمان التطور السلمى لهذا الوطن، ولكن لضمان التطور السلمى للرأسمالية المصرية ذاتها.

خطورة التزاوج بين الثروة والسلطة

وتعود هذه الدعوة إلى الاسترشاد بهذا المبدأ إلى أن العلاقة بين رأس المال والسلطة فى مصر تتجاوز فى الوقت الواضح وبكثير ما عرفته مصر قبل ثورة 23 يوليو وذلك للأسباب التالية:

أولا: أن الرأسماليين الذين عرفتهم مصر قبل ثورة يوليو كانوا يملكون مشروعات أصغر نطاقا بكثير من المشروعات التى يملكها كبار الرأسماليين المصريين فى الوقت الحاضر. فربما باستثناء بنك مصر، لم يكن هناك وجود كبير للرأسمالية المصرية خارج مصر، بينما أصبح نطاق العمل للعديد من الرأسماليين المصريين فى الوقت الحاضر يمتد خارج مصر، وليس فقط لبعض الدول العربية أو الأفريقية، ولكن للكثير من الدول المتقدمة، مثل إيطاليا والولايات المتحدة، وليس الأمر مقصورا كما قد يتبادر إلى الذهن على نشاط مجموعة أوراسكوم وتفريعاتها العائلية المتعددة، فهناك امتدادات مماثلة وإن كانت أقل حجما فى أنشطة المقاولات والصلب والمنسوجات والسياحة، وربما الاستثمارات المالية. ومعنى ذلك أن الرأسمالية التى تواجهها الدولة المصرية فى الوقت الحاضر هى أقوى بكثير وأشد بأسا وأوسع نفوذا مما عرفته مصر قبل الثورة. وإذا كان هذا التطور يعكس بكل تأكيد نجاحا يستحق التقدير لهؤلاء الرأسماليين المصريين، فإن الأمل يحدونا إلى أن يعود هذا النشاط ببعض النفع على المواطنين المصريين وعلى الدولة المصرية ذاتها.

وثانيا: أن العلاقة بين رأس المال والسلطة فى مصر قبل الثورة تختلف عما تعرفه مصر فى الوقت الحاضر. بكل تأكيد كان هناك رأسماليون على قمة جهاز الحكم فى مصر قبل الثورة، ولكنهم كانوا رجال سياسة أولا، ثم أصحاب مصالح رأسمالية بعد ذلك. كان إسماعيل صدقى مثلا رئيسا للعديد من الوزارات قبل الثورة، وكان اليد الحديدية للملك فؤاد ومن بعده ابنه الملك فاروق فى مواجهة الحركة الشعبية التى كان يقودها حزب الوفد، ولكنه كان رجل سياسة وزعيم حزب فى المقام الأول. فبينما لا نعرف عن أى مهارات سياسية يملكها رجال الأعمال المتنفذون فى الحزب الوطنى الديمقراطى. لم نشهد لأحد منهم قدرة على الإقناع وطرح الحجج، ولم نسمع عن تجربة حزبية ذات بال لأى منهم، بل إنهم لا يهتمون أصلا بالحديث إلى الرأى العام، ولا يبدو أنهم يشعرون بالحاجة لمخاطبة المواطنين. يكفيهم أنهم يصلون بسهولة لمن يتخذ القرار الذى يهمهم. بل إنهم فى العديد من الأحوال، بحكم وجودهم داخل مجلس الوزراء، وعلى قمة الحزب الحاكم، هم من يتخذون القرار.

وثالثا: أن هذا الصعود للرأسمالية المصرية قد اقترن بسلوك يمثل انتهاكا للقانون وازدراء لأحكام القضاء، ومن ثم تكريسا للفساد مما شكل تبديدا لشرعية نظام الحكم الذين هم من أقطابه البارزين. والأمثلة عديدة فى هذا المقام. من الحصول على قروض توصف بأنها سيئة هددت بعض المؤسسات المصرفية الكبرى، ووصلت فى بعض السنوات إلى قرابة 7 أو 14% من إجمالى أصول النظام المصرفى، وتشمل الأمثلة التهريب لأدوية محظورة والهرب من تنفيذ أحكام القضاء حتى إلى خارج مصر وغير ذلك كثير. بل ووصل الأمر إلى تحدى قدرة أعتى أجهزة الدولة المصرية على تنفيذ مشروعات كبرى هى ضرورية للأمن القومى ولتطور مصر العلمى والتكنولوجى، وذلك خدمة لمصالح ضيقة يمكن بسهولة تعويضها فى أماكن أخرى. والمثل الصارخ هنا هو مقاومة عدد من كبار رجال الأعمال إقامة المحطة النووية الأولى فى مصر فى منطقة الضبعة، والتى يجمع على أنها الموقع الأصلح علماء مصر الثقات فى موضوع الطاقة النووية، مستندين إلى دراسات عميقة ومكلفة.

ورابعا: أن جهاز الدولة فى مصر لم يظهر أى مقاومة لهذا السعى من جانب هذه الرأسمالية الصاعدة لتوجيهه لخدمتها وحدها، ومن ثم بدا أن العديد من هذه الأجهزة تتجاهل مصالح أغلبية المواطنين، وتظهر لهم العين الحمراء بدعوى انتهاكهم للقانون، وتغضى الطرف عن انتهاكات كبار الرأسماليين لنفس هذا القانون. وقد كان هناك مثل صارخ فى الأسبوع الماضى على هذا الانحياز لواحد من أجهزة الدولة ضد المواطنين البسطاء، عندما جندت وزارة الداخلية المئات من جنودها لإزالة ما تعتبره أبنية عشوائية فى عزبة الهجانة بمدينة نصر، غير عابئة بأن عملها هذا يلقى بثلاثة آلاف من المواطنين فى عرض الشارع دون أى مأوى بديل، بينما سكتت عن انتهاكات صارخة ماثلة للعيان فى أحياء الطبقات الموسرة فى المهندسين والزمالك ومدينة نصر. بل إن أحد هذه الانتهاكات هو برج يتجاوز عدد أدواره الثلاثين ينتصب إلى جانب نادى الجزيرة شاهدا على عجز الدولة عن التصدى لانتهاكات القانون عندما تأتى من أصحاب الأموال والحظوة.

هل هناك ضرورة لمكافحة سيطرة رأس المال على الحكم؟

لا يعنى هذا الحديث عن خطورة سيطرة رأس المال على الحكم الدعوة إلى وقف التطور الرأسمالى فى مصر. ولكنه دعوة للاسترشاد بتجربة نجاح الرأسمالية فى دول أخرى ونوع العلاقة التى ينبغى أن تقوم بين الدولة والرأسمالية حتى تتمتع الدولة بالشرعية وتتطور الرأسمالية ذاتها على أسس صحيحة تعود بالنفع على الرأسماليين أنفسهم مع المواطنين الآخرين. فامتلاك جهاز الدولة لاستقلاله النسبى فى مواجهة الرأسماليين هو ضرورى لنجاح الرأسمالية ذاتها. الرأسمالى الفرد لا يرى سوى مصالحه فى الأجل القصير، ولكن جهاز الدولة، والذى يفترض أنه يعبر عن كل المواطنين، يستطيع أن يضع مصالح الرأسمالية كطبقة فى إطار أوسع يضمن استمرارها ورضاء المواطنين عنها. على أساس هذه الرؤية الأوسع لمصالح الرأسمالية كطبقة وكنظام أدخلت الحكومات فى الدول الرأسمالية فى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إصلاحات حدت من حرية السوق، وأدخلت نظم الحماية الاجتماعية من خدمات عديدة تعليمية وصحية وسكنية ودخول مضمونة فى حالات العجز أو البطالة أو المرض أو التقاعد قاومها الرأسماليون فى البداية، ولكن ثبت أنها تصب فى صالح بقاء الرأسمالية ذاتها.

هل تجدى الإصلاحات أى وقف سيطرة رأس المال على الحكم؟

من المؤكد أن نصوص الدستور الحالى لا تجدى نفعا فى مقاومة سيطرة رأس المال على الحكم، ومن المؤكد أيضا أن الطبقات الرأسمالية بحكم ما تملك من ثروة ومعرفة وسيطرة على أجهزة الإعلام هى التى تملك النفوذ الأوسع فى كل الدول الرأسمالية، ولكن هناك فارقا بين السيطرة البدائية المباشرة على نظام الحكم كما هو الحال فى مصر، والهيمنة الناعمة الأرقى التى تمارسها الرأسمالية فى الدول المتقدمة.

ولذلك تمثل هذه المقالة دعوة للحوار حول كيفية ضمان أن يصب التطور الرأسمالى فى مصر فى الوقت الحاضر فى صالح المواطنين بدرجة أكبر وفى صالح فاعلية وشرعية الدولة المصرية. وفى هذا الصدد قد يكون من المفيد إعادة النظر فى مواد الدستور التى تحظر تعامل كبار رجال السلطتين التنفيذية والتشريعية تعاملا تجاريا مع الدولة، بينما تشير التجربة إلى أن كبار المسئولين هؤلاء لا يتورعون عن أن يتركوا هذا التعامل مع الدولة لأبنائهم وأقاربهم، وهو ما لا يحظره الدستور أو القوانين فى الوقت الحاضر. كما يمكن التفكير فى تضمين الدستور نصوصا تلزم كبار المسئولين بالكشف سنويا وعلانية عن حجم ثرواتهم وثروات أبنائهم وأقاربهم ومصادر التغير فيها، فضلا على تدعيم استقلالية أجهزة الرقابة والمحاسبة وخضوعها للسلطة التشريعية.

إن مثل هذه الإصلاحات، حتى ولو ثبتت فاعليتها، لا توقف التطور الرأسمالى فى مصر، ولكنها قد تنجح على الأقل فى أن تهذبه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved