يسعد صباحك

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 22 ديسمبر 2013 - 11:23 ص بتوقيت القاهرة

صوت يأتيك من آخر المدى، من الرجع البعيد.. وأنت تقف بمعبد بعلبك الرومانى، تحيط بك آثار أخرى من حضارات مختلفة، وأعمدة ترتفع حوالى عشرين مترا، وحقول, وسلسلتا جبال لبنان الشرقية والغربية.. تشعر وأنك فى زمن غير الزمن، بل خارج نطاق الزمن.. والصوت الذى يتسلل إليك هو صوت فيروز، الصوت المائى كما أطلق عليه الشاعر نزار قبانى، ينبعث ربما من مذياع قديم أو من أعماق مقهى عتيق، لكن لا تشعر أبدا أنه يأتيك من غير مكان، هو ينتمى لكل ما هو محيط فى تناغم ساحر... صدى يستدعيك لاجتياز الوجدان اللبنانى، وقد عايش واقعه لمدة ثمانية وسبعين عاما هو عمر السيدة فيروز، التى لمعت فى أوائل الخمسينيات فى مهرجان بعلبك ضمن آخرين صاروا نجوما بعدها، ثم قدمت أول عمل منفرد لها على مسرح بعلبك أيضا سنة 1957، وكان طبعا للرحابنة. صوتها هو ربما الشىء الوحيد الذى اخترق خمسة عشر عاما من الاقتتال الأهلى اللبنانى وخرج دون مزق، يُجمع ولا يفرق، فهى لا تقف على أعتاب الكلمات، بل على أعتاب الإحساس.

•••

لا على الغناء أتحدث، لكن عن المستقبل.. ذلك الذى يرتقبه الناس مع اقتراب عام جديد، فيقبل البعض على العرافات وكتب الأبراج والبخت والطالع... كان من بين ما نشرته صحيفة مصرية مؤخرا تكهنات لسيدة ستينية تدعى «أم نبيل» بصفتها شيخة البصارين اللبنانيين، تعيش فى حى الشياح بضواحى بيروت، وتنبأت هذه الأخيرة بتحسن أحوال مصر فى غضون تسع سنوات ووفاة السيدة فيروز خلال العام المقبل، ما أصابنى بحالة فزع صباحى مفاجئ. رغم اقتناعى بالطبع أن النهايات هى مصير البشر، قلت كما جرت العادة: كذب المنجمون ولو صدقوا... طغى على شعور أن هناك حاجة ملحة لهذا الصوت كى يعلو على صوت السيارة المفخخة التى انفجرت الأربعاء الماضى قرب مركز حزب الله، شمالى مدينة بعلبك، قطعا ضمن انعكاس الوضع السورى على الداخل اللبنانى.. حاجة ملحة لسطوة هذا الصوت الفيروزى، الذى هو أقرب للموسيقى الكونية منه للكلمات التى تفرق حتى بين اللهجات داخل اللغة الواحدة.. صوت يعطى الناس هدنة من صفارات الإنذار والإسعاف التى تحمل قتلى وجرحى هنا وهناك، والقوى الأمنية التى تطوق المكان.

•••

صوت يسعد صباحك ويجعلك لا تكره أنك ولدت فى هذه الفترة... صوت يردد « إيه فى أمل.. أوقات بيطلع من ملل»، كما تقول إحدى أغنياتها الأخيرة... صوت يذكرنا أنه واكب الصراعات اللبنانية فى فترة حاسمة بين حوادث عام 1958 والحرب الأهلية وكذلك قضايا الدولة والنزاعات السياسية والاجتماعية، وانتصر.. بل ظل ينتقل بين أنواع الغناء من فولكلور لموشح لطرب وأغانى وطنية أو جاز أو تراتيل سريانية وبيزنطية.. أدق التفاصيل دون تكلف، حتى عندما تمزج بين الصوت الطبيعى والصوت المستعار.. انسجام تام يجعلنا نتقبل الثلج والبرد والرعد لأنها تغنى لهم، نحبهما مهما قاسينا، كما نحب الوطن.. غنت فيروز للجو والأعياد، للخوف والأحلام.. «تلج تلج تلج، عم بتشتى الدنيا تلج... يا أجراس وعى الناس يا أجراس.. الليلة عيد وعى الناس».. هدنة فيروزية الطابع فى منطقة لا تعرف حاليا سوى القلاقل وتعب القلب، لا مجال فيها للتكهن والتنبؤ، فهى تأتينا كل يوم بغريب.. منطقة كلها سكاكين.. وفيروز تقف على أطراف بعلبك، على أعتاب الإحساس، وهو الأصدق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved