«نعدكم أننا سنعيد النظر»

رانية فهمى
رانية فهمى

آخر تحديث: الثلاثاء 22 ديسمبر 2015 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

بدت علامات القلق على مسئولة الجمعية غير الهادفة للربح وهى جالسة، هى والمسئول المالى، فى غرفة الانتظار يراجعان مراجعة أخيرة ملفا أنيقا يحوى مقترح مد مشروع لتمويل برامج الجمعية العديدة لخدمة الأطفال المعرضين للخطر وخاصة هؤلاء فى ظروف الشارع. وبالرغم من كرهها للأرقام والجداول والرسوم البيانية ولكن عملها علمها أن تحب ــ أو على أضعف الإيمان تتقبل ــ ما تكره، حيث للضرورة أحكام. ولذلك قامت كل إدارة من إدارات الجمعية بتحضير جداول ملونة تشير لأنشطة الجمعية بالنسب المئوية، رسوم بيانية توضح التطور والطفرة التى حدثت فى عمل الجمعية فى سنوات عمرها القصير، الشراكات التى استطاعت تكوينها مع المهتمين بنفس القضية من جهات حكومية وجمعيات وشركات، وموازنة جامعة شاملة لكل بنود الصرف بالزيادات المطلوبة التى تعكس الاحتياجات الحقيقية للعاملين لكى يتمكنوا من الاستمرار فى تقديم خدمة تعكس رؤية الجمعية: «عندما يأتى اليوم الذى ينقذ فيه الأطفال وخاصة هؤلاء فى ظروف الشارع، من كل المخاطر التى يتعرضون لها، نعدكم أننا سنغلق أبوابنا ونبحث عن عمل/حياة أخرى فلم يعد هناك حاجة لنا. ولكن حتى يأتى هذا اليوم، سنتفانى فى إتاحة فرصة الحياة بكرامة وعزة لهم».

***
خلف هذا الباب وداخل غرفة الاجتماعات وبناء على هذا الاجتماع سيتحدد مصير الأطفال والموظفين والعاملين بالمؤسسة التى يعتبرها أغلبهم البيت الثانى لهم. خلف هذا الباب تجلس هيئة التحكيم، والتى فى مجال عملهم تسمى «الجهة المانحة». هذا هو مقترح مد المشروع الذى تتقدم به الجمعية للحصول على التمويل اللازم لاستمرار فتح بابها لخدمة أطفال لفظهم أهلهم والمجتمع، تعلم الجمعية أن قرار الجهة المانحة بالموافقة على التمويل سيعتمد على مدى اقتناعهم بكل الدفوع التى صاغها فريق العمل واستعدوا لها لأشهر عدة.
نظرت فى ساعتها وكان ما زال هناك خمس دقائق على بدء الاجتماع، فراجعت بتوتر الأرقام فى الميزانية ووقع نظرها على الرقم الهزيل المخصص للتسويق والإعلان ولعمل فعاليات جمع المال والذى قام فريق العمل بزيادته فقط من 3% إلى 6% من مجمل الموازنة. طبعا لم تنس كم المرات التى رفٌضت فيها زيادة هذا البند بالذات من العديد من المانحين. وتساءلت للمرة المائة: لماذا يٌترك القطاع الهادف للربح لينفق الأموال الطائلة على إنشاء إدارة جمع المال وعلى التسويق والإعلان ولكن يأبى الممولون توجيه تبرعاتهم ومنحهم إلى الجمعيات غير الهادفة للربح؟ لماذا لا يرون أن الأموال المستثمرة لدعم هذه الأنشطة داخل المؤسسات الأهلية سوف تدر أموالا مضاعفة وستذهب فى النهاية لخدمة القضية وخدمة الأطفال؟
ولكن يبقى بند فى الموازنة هو دائما ما يسبب لها ولفريق العمل غصة كبيرة. سمعت اسم الجمعية ينادى عليه: «تفضلا من هنا» قالت السكرتيرة. قامت من كرسيها مع المسئول المالى وهى تهمس له: «يارب، لا تدعهم يعترضون على هذا البند، وإذا اعترضوا ألهمنا الحجة حتى نستطيع إقناعهم بضرورته». حاول طمأنتها ولكنها سارت متثاقلة حتى فتحت الباب: ترحيب وابتسامات وفتح صور من الملف المبعوث لهم بالبريد الإلكترونى وحديث قصير عام، ثم..... مناقشة كل بند مناقشة مستفيضة،... ثم كان ما كان: «كل التعديلات التى نطلبها منكم تعديلات طفيفة ولكن هذا البند.... نحن لا نوافق عليه، فكيف يكون بند مصروفات أنشطة المؤسسة 24% من الإجمالى وأجور الموظفين والعاملين 48% أى نصف المصروفات فى حين أن نسبة الأجور الإدارية المتعارف عليها عالميا فى أى منشأة يجب ألا تتخطى الـ18%؟؟!!! معنى هذا أنكم تطلبون صرف الأموال على الموظفين بدلا من الأطفال وهذا شىء مرفوض تماما».
هذا ما كانت تخشاه. «ساعدنا يا رب». استقامت فى جلستها ونظرت للمسئول المالى ليبدأ الشرح من الناحية المحاسبية: «هذه ليست أجور موظفين إداريين مثل المدير والمحاسب وفرد الأمن ومسئول المشتريات. فهذه الأجور نسبتها 18% من الإجمالى العام ولكن الباقى هى كلها أجور مرتبطة بأنشطة الأطفال وبدون هؤلاء الموظفين لن نستطيع تقديم الخدمة، وإذا خفضنا عدد الموظفين أو مرتباتهم فلن تكون الخدمة بالجودة التى تشيد بها هيئات محلية ودولية».
***
قبل أن تستطرد المسئولة فى محاولات مستميتة للإقناع، لاحت أمامها كل مقدمى الخدمة الذين تريد لهم ليس فقط زيادة فى الأجور ولكن حوافز وبدلات لتعويضهم عن مهامهم بالغة التعقيد وظروف عملهم بالغة الصعوبة. كيف يمكن للكلمات نقل صور هذه المعاناة، لماذا تعجز الأرقام دوما على ترجمة كم الجلد والمثابرة ومحاولة نزع الألم والفجيعة وعلاج النفسيات المريضة لأطفال ضحايا بدون أن يصيبهم هم الموظفون والعاملون جانبا من هذا الألم حتى ولو كان قد قيل لهم فى سنوات دراستهم أو تدريبهم إنهم يجب أن يكونوا مثل الطبيب الجراح: يستأصل الأورام ويعود إلى بيته يمارس حياته مساء حتى يأتى يوم عمل جديد بنفس الأوجاع؟
نظرت فى أعين الجهة المانحة: «تخيلى حضرتك أنك اصبحت أما أو أبا فجأة لسبعة أو 8 أطفال فى نفس الوقت وكلهم أطفال لديهم مشاكل مثل أن يكون عليك رعاية طفل لديه مشكلة فى الكلام لأنه لم يجد أحدا يكلمه وهو الآن عمره أربع سنوات؟ هذه «الأم» هى مشرفة الأطفال فى غرفة واحدة فى بيت الإقامة للأطفال عندنا حيث نسبة المشرفة للأطفال فى كل غرفة إقامة تتراوح من 6 إلى 7 أطفال لكل مشرفة، ويعاونها مديرو أجنحة الإقامة ومدير البيت ككل. أو أنك عضو فى طاقم إخصائيين وأطباء نفسيين لتقديم الدعم النفسى لأطفالنا وأسرهم من خلال لمحاولة علاجهم من أمراضهم النفسية التى يعانون منها والتى أحدثت شروخا وكسورا يصعب مداواتها. وكلهم مطالبون بأداء فائق فى رعاية الأطفال رعاية كاملة والقيام بالمهام الإدارية الأخرى مثل كتابة تقارير عن تطور كل طفل عضويا ونفسيا وصحيا وتعليميا. لهذا السبب لدينا نسبة كبيرة من الموظفين هم من المشرفين/المشرفات على أطفال الإقامة.
«أو أنك تبحث يوميا يا سيدى عن الطفلة وأمها وجدتها المقيمات على ناصية أحد الشوارع الراقية فى قلب العاصمة لأنهن لا يجدن مأوى لهن ويقتاتن على ما يلقيه عليهن المارة. أو عن الولد الذى هرب من أسرته بسبب الانتهاكات البدنية والجنسية واللفظية التى يتعرض لها فى أسرته واضطر إلى الاحتماء بقائد من قادة الشارع. هذا الموظف هو الإخصائى الاجتماعى فى فريق الشارع الذى يقسم يومه بين تقديم خدمات للأطفال فى الشارع وبين مراكز الاستقبال النهارية للجمعية. هذا الموظف/الموظفة يتصدى لبلطجية الشارع حاملى الأسلحة، يحاول تعديل سلوك المترددين على مركز الاستقبال الذين قد يأتون الجمعية مخبئين أسلحة بيضاء فى ملابسهم أو متعاطين مخدرات. وأحيانا يتم استدعاؤه من الشرطة لاستجوابه على جرائم أطفال مقيمين فى الشارع أو أفراد أسرهم، وهو يسعى دائما إلى حماية الأطفال من جبروت واستغلال قادة الشارع، ويتعرض لخطر القبض عليه مع الأطفال بتهمة تسريحهم فى الشارع خاصة فى ظل عدم وجود بطاقات هوية تحميهم مستخرجة من الوزارة التى تتبع لها الجمعية وهى وزارة التضامن».
***
كانت مسئولة الجمعية تعلم أنها يجب أن تسرع فى الكلام، فقد بدا التململ على الجهة المانحة:
«أو تخيلوا جميعا أنكم تحاولون تحويل الطاقات الهائلة للأطفال من طاقات مدمرة لطاقات مبدعة فتقومون بسباق الزمن حتى تستطيعوا تعلميهم من خلال برامج التعليم العديدة بالجمعية وتقديم ورش فنية ومهنية للوقوف على مواهبهم المدفونة قسرا وقهرا. هؤلاء هم المدرسون والقائمون على الورش. أو أنكم تقومون يوميا بأعمال النظافة والطهى لما يزيد على 150 طفلا ومشرفيهم المقيمين معهم».
ثم قالت بكل ثبات: «وبعد كل ذلك، هل تعتبرون أن أجور هؤلاء الموظفين أجور إدارية تخضع للنسب العالمية؟ وحتى لو كانت كذلك، لماذا تعتبر أصلا التكاليف الإدارية للمؤسسات غير الهادفة للربح عبئا وليس رأسمالا للجمعية؟ إن الإنفاق على مقدمى الخدمة وعلى نفقات أخرى مثل إنشاء إدارة جمع المال هو قاطرة النمو وشرط ضمان جودة الخدمة. هل هناك أمل فى تغيير الذهنية التى تقول إن أموال المانحين يجب أن تذهب للمستفيدين المباشرين؟ والسؤال الأهم: لماذا يجب أن يرضى موظف الجمعية بمقابل أقل كثيرا من الذى يحصل عليه لو عمل فى شركة خاصة فقط لأنه يعمل فى جمعية لا تهدف للربح وتعتمد فى المقام الأول والعاشر على المنح والهبات؟ ثم كيف تتوقعون أن يحفز الموظفون مع زيادة المهام على عاتقهم سنة تلو الأخرى بزيادة حجم أعمال الجمعية؟ ألا يجب أن يكون للمجتهد فيهم مكافآت؟
«بدلا من سؤال المؤسسات الأهلية على نسبة المصروفات الإدارية، انظروا إلى معايير أدائها، دققوا فى أنظمتها الداخلية ومدى كفاءتها فى تحقيق رؤاها... ثم اسألوا موظفى الجمعيات عن أهم شىء: عن حجم أحلامهم، عن طموحاتهم فى حل مشكلات مجتمعهم التى يأبى الكثيرون فى الخوض فيها طمعا فى وظيفة أسهل ونتائجها مضمونة».
***
سكتت ورفعت الجلسة وطلب منها ومن المسئول المالى الخروج لبضع دقائق خارج غرفة الاجتماعات.
مضت 15 دقيقة ببطء شديد ثم جاءهما الرد: «نعدكم أننا سنعيد النظر».

مدافعة عن حقوق الطفل

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved