أرشيف الحب الرقمي

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 22 ديسمبر 2018 - 11:25 م بتوقيت القاهرة

ظن البعض خطأً أن الهاتف المحمول قضى نهائيا على الخطابات الغرامية، لكن في الحقيقة هو قد أعاد اختراع مراسلات الأحبة الذين أظهرت كتابتهم أنهم لا يقلون رومانسية عن أجدادهم. فقط لم تعد الرسائل خطية ولم تعد تستغرق أسابيعا لكي تصل إلى أصحابها، بل صارت فورية، يجيب عليها الآخر، إن أراد، في التو واللحظة، واختلفت ربما طريقة التعبير، مع أنها لم تفقد شيئا من صدقها وتدفقها.
هذا هو المعنى الذي أثبتته بالتجربة الناشرة والكاتبة الفرنسية، مورجان أورتان، 27 عاما، عندما أنشأت في فبراير 2017 حسابا على موقع إنستجرام، وخصصته لرسائل الحب المتبادلة على التليفون، على سبيل الأرشفة والمشاركة. ثم بعد نجاح الفكرة نجاحا فائقا- إذ انهالت عليها الرسائل التي يصل عددها حاليا إلى حوالي 400 يوميا- فكرت في نشر كتاب يعتمد في حبكته على بعض ما جمعته من رسائل. وقد حدث ذلك بالفعل بعد شغل دؤوب استمر قرابة عام، وخرج إلى النور، في نهاية أكتوبر الماضي، كتابا يحمل نفس عنوان حسابها على الإنستجرام وهو ما يمكن ترجمته إلى "حب انفرادي" أو(Amours solitaires ). بدوره نال الكتاب إعجاب الناس، مثلما حدث من قبل مع الموقع الذي يقدر عدد المشتركين فيه بحوالي 210 ألف شخص.
نفذت الطبعة الأولى من الكتاب خلال أسبوعين، وخاب ظن الناشرين التقليديين الذين لم يتحمسوا له في البداية ووجدوا صعوبة في تصنيفه، فهم عادة يتوجسوا من الكتابات التي تأتيهم من عالم التواصل الاجتماعي ويحتاروا في تقييمها.
***
الكاتبة، المتخصصة بالأساس في أدب المراسلات، لم تخف قط شغفها بالكلمات. أرادت أن تتحدى في عقر دار الصورة، وهو موقع إنستجرام، بتخصيص حساب لكلمات الحب. أطلقت الفكرة كمشروع أدبي لأرشفة رسائل الحب الحديثة والسريعة التي تختفي عادة بمجرد محوها، ثم اكتشفت بعد وقت قصير أن مشروعها ساهم في تحرير المشاعر وانعتاق الكلمات التي تصف الولع والغرام والهجر والوجد والخيانة والخوف من فارق السن، إلى ما غير ذلك من أحاسيس مرتبطة بالحالة العاطفية، وكان البعض يجد حرجا في الإفصاح عنها علنا.
أظهر الحساب ومن بعده الكتاب أن الناس لا زالت متعطشة لكلمات الحب التي تمس القلب، وأنهم بحاجة إلى أشياء محسوسة وملموسة، وسط هذا العالم الافتراضي. كما أثبت أنه لا فارق بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بجرأة المشاعر أو الصراحة أو الإيروتيكية، وقد تراوح سن المرسلين ما بين 18 و 35 عاما، أغلبهم من النساء ومن العاصمة، حتى لو لم تحدد الكاتبة السن والاسم عند نشر الرسائل على الموقع.
***
اختارت مورجان أورتان 278 رسالة وأعادت ترتيبها حتى تشكل قصة حب واحدة بين شخصين مجهولين الهوية، لا يعرف القارئ عنهما شيئا، سوى هذه النصوص القصيرة المتبادلة على الهاتف والتي تسمح بمجاراة قصة حب بدأت بلقاء عابر ودامت عامين، حتى بعد سفر البطلة إلى الخارج، ثم انتهت كالعديد من الأشياء الحلوة.
وفي واقع الأمر أرسل هذه النصوص أفراد كثر، لكنها بدت كحكاية واحدة بفضل مجهود الكاتبة التي برعت في تركيب قطع اللعبة المتناثرة لتكتمل الصورة. لم تضف أي تفاصيل بخلاف تسلسل الأيام والساعات، وجاء الكتاب في شكل نصوص قصيرة متتالية تشبه تلك التي نكتبها على التليفون، وقد وصفتها الكاتبة أنها "انفرادية" على أساس أننا نقرأها فرادي، كل شخص ينفرد بشاشة تليفونه ليكتب أو يقرأ رسائل الحب التي يقارنها المتخصصون بانتشار مراسلات أدبية الطابع مثل تلك التي بعثها الكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف لزوجته فيرا أو التي تبادلها الكاتب الفرنسي ألبير كامو مع الممثلة ماريا كزاراس أو الرئيس فرانسوا ميتران وآن بينجو أو في عالمنا العربي رسائل حب غادة السمان وغسان كنفاني في الستينات ومي زيادة وجبران خليل جبران ما بين 1911 و 1931.
وبدلا من أن يتوجه مرسل الخطاب بالشكر لساعي البريد، كما كان يكتب البعض على الظرف قديما، ذكرت الكاتبة الشابة في مقدمة ما أسمته "قصة حب عصرية" أن من ألهمها الفكرة كان حبيبها الذي قابلته في العام 2017 وتبادلا رسائل الحب النصية على الهاتف. أرادت أن تحفظ هذه الرسائل كما كانت تحتفظ بخطاباتها الورقية في صندوق أو في الأدراج. فكرت في حساب الإنستجرام. والآن هي تتوجه بالشكر كل الشكر "لروميو" الذي جعلنا نقرأ مجموعة نصوص لا يختلف محتواها كثيرا عن رسائل القرنين التاسع عشر والعشرين، فهي غنية بالصور المجازية والكلمات الرقيقة والإبداع والشجن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved