«حظر تجول».. إلهام سينمائى يكشف المسكوت عنه بالواقع والشاشة

خالد محمود
خالد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 22 ديسمبر 2020 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

تبقى السينما فى أبهى صورها عندما تحاور هواجس الإنسان وظنونه، تتساءل معه فيما يحيره، تجعل قلبه ينبض بمكنون خوف وقلق وترقب ومسكوت عنه، تجعله يصرخ آهاته، يطردها خارج أنفاسه لتستريح، حتى لو كانت آهات ذنب، هو بالفعل قدره الذى كتب عليه.
فى فيلم المخرج أمير رمسيس «حظر تجول» عشنا تلك اللحظة المثقلة بهموم بطلتنا فاتن «إلهام شاهين» وحيرة وغضب ابنتها ليلى «أمينة خليل»، الأولى حكم عليها بالسجن لمدة عشرين عاما بتهمة قتل الزوج، والثانية تتبرأ من أمها وجريمتها الكبرى بقتل أبيها، فيما يلعب الفيلم بموجات إنسانية وشاعرية فى رحلة استكشاف الحقيقة ومواجهة كل منهما الأخرى، حيث يسير السيناريو بواقعية شديدة على خيط رفيع لتلك العلاقة التى ينفجر توهجها الدرامى عندما يلتقى الاثنان معا وجها لوجه بعد سنوات طويلة من الفراق، الأم تلتزم الصمت أمام تساؤلات ابنها وتأبى أن تفصح لابنتها عن دوافع الجريمة لحمايتها من حقيقة مرة صدمتها، وهى أن والدها كان متحرشا، فى نطاق زنا محارم، ويترك الحوار الذكى والعميق بجمله وإيحاءاته وكذلك الصورة الشفافة كلا الطرفين وكذلك المشاهد ليكشف السر الذى رفضت الأم البوح به، وكأن الزمن كفيل بحل المعضلة.
أحداث الفيلم الذى كتبه أمير رمسيس أيضا تدور فى إحدى ليالى خريف ٢٠١٣ خلال فترة حظر التجوال بمصر، نرى البداية مع فاتن التى كانت تعمل مدرسة وهى تستعد للخروج من السجن بعد قضاء فترة العقوبة، وبصحبتها زوج ابنتها حسن «أحمد مجدى»، بينما تنتظر ليلى فى السيارة ليصطحبها إلى المنزل، الأم التى كانت شغوفة بلقاء إنسانى بعد الغياب، لكنها تجد الجفاء من الابنة وهو أمر أراده الفيلم طبيعيا فى ظل هاجس الاتهام، فليلى غير قادرة على تجاوز الماضى والعفو عنها فى مقابل رفض تام من (فاتن) للإفصاح عن سبب الجريمة، مما يضع الابنة فى صراعٍ ما بين عقلها الرافض للأم وقلبها الذى يميل لها تدريجيا مع الوقت والعشرة وربما الإحساس بأن الأم لم ترتكب جريمتها بسبب ضبط الزوج لخيانتها، حسبما كانت تسمع وهى صغيرة، ولكنه لفعل أكبر أظهره المخرج على استحياء، وهو أن الزوجة هى التى ضبطت زوجها يفعل شيئا محرما ومشينا، حيث كشفت الكاميرا عن ملابس الابنة وهى طفلة ملقاة على الأرض فى غرفة النوم، نحن لم نرَ جريمة القتل واضحة، ولم نرى حتى وجه الزوج لكنها وصلت بلغة السينما التى أرادها أمير رمسيس، والتى لم يجرح بها مشاعر المشاهد.
ونعود لتلك الليلة الأولى فى اللقاء، لنرى عبر الأحداث الكادر وهو يطوف حول شخصيتين فى مكان واحد مغلق هو شقة ليلى، وتطرح العديد من الأسئلة حول المسكوت عنه فى علاقتهما الانسانية، والتى كانت سببا فى هدم العلاقة بينهما.
بين تصاعد وهبوط لصراع المشاعر نشاهد عددا من المواقف التى تدخل الحدث الدرامى ذروته مثل تلك التى يظهر فيها الجار يحيى الشخصية التى يقدمها الفنان الفلسطينى كامل الباشا والذى كشف عن حبه الحقيقى لفاتن وكيف تحمل عبء السر وصمت تجاه ما اعتقدت ليلى بأنه عشيق أمها خلافا للحقيقة، أيضا المشهد الذى تقول فيه فاتن بأداء صادق: «كنت فاكرة انى ناسية شكلها، لكنى اكتشفت انى لسه فاكرة، روحى بتتاخذ منى كل ما ببص فى وشها»، وتقول ليلى: حقى اعرف ليه حرمتينى منك، ليه قتلتى ابويا، ازاى ما اصدقش اللى قالوه عنك».
وفى منطقة أخرى هناك عدد من المشاهد الإنسانية للأم والتى صورها المخرج بشاعرية، منها ما بين فاتن ويحيى حيث تقول له: «انت لسه بتحب حليم»، ليرد: دايما، حيث كان فى الخلفية صوت العندليب، وهو يغنى «بينى وبينك ايه شغلت قلبى ليه»، وبينما يغوص الفيلم برحلة الوصول للثقة والتفاعل بين فاتن وليلى حتى مع عدم الحصول على الإجابات المنتظرة، نرى واحدا من اجمل المشاهد، وهما يشاهدان على شاشة التليفزيون اغنية هدى سلطان «خلاص يادنيا هتبقى حلوة» وتغنى معها فاتن قبل أن تتوقف تقول بنظرة تلمع الدموع فى عينيها «اللى كان تعبنى الاختيار.. انت اخترتى متشوفينيش وكنتى حرة فى اختيارك، انا كان من حقى اشوفك واطمن عليكى، كان نفسى ادافع عن نفسى وأحاول اغير رأيك فى اللى انت فاهماه.. اصعب حاجة فى العشرين سنة اللى فاتت هو حرمانى من الاختيار»، وهنا ترد فاتن : دى انانية منك انت اللى حرمتينى ان افهم وارتاح، حرمتينى منك دلوقتى عايزانى احبك».
الصورة الرائعة هنا طرحت سؤالا مهما هو: هل مشاعرنا كافية أن تمنحنا الإجابات والمغفرة، أم أن ذكر الحقيقة مهم فى هذه المعادلة، الواقع أن الصمت كان خيار الأم فى قتلها للزوج كرد فعل على قيامه بفعل فاضح مع ابنته، مثلما كان خيار الجارة «عارفة عبدالرسول» التى عرفت ان زوج فاتن تحرش بابنتها واكتفت بمنعه من زيارتهم.
ولا ننسى الإيهام الذى طرحه المخرج من آن لآخر عبر مسرحية فؤاد المهندس التى يغنى بها «رايح أجيب الديب من ديله» وبالفعل أوقعت الأم بالديب.
عنوان الفيلم «حظر تجول»، له دلالات واضحة وذكية سواء على المستوى الدرامى بمبرر وجود الشخصيات فى مكان وزمن شبه أحادى، يوحى بالحصار، أو على مستوى الفكرة المحظور الاقتراب منها اجتماعيا، وفى كلتا الحالتين لم نشعر بملل ولو للحظة واحدة، بل عشنا وتعايشنا مع مع الأحداث كما كان لموسيقى تامر كروان دور موحٍ ومؤثر فى وصول البعد النفسى للشخصيات إلى المشاهد وكأنها قطعة من الحدث.
على مستوى الاداء قدمت الهام شاهين دورا مدهشا وثريا ومغايرا، ملمة بفلسفته وتركيبته النفسية المعقدة، لزوجة مظلومة ارتكبت جريمة ودفعت ثمنها غاليا، كانت تعبيرات عينيها توحى بالكثير وربما اجابت عن المسكوت عنه دون أن تتكلم، ايضا أمينة خليل التى تجسد شخصية وضعتها فى اختبارات عدة ما بين حيرة وكراهية وعطف قدمتها بوعى وأمسكت بالشخصية بكل جوارحها المتباينة، وكان هناك ظهورا جيدا فى واقعيته لأحمد مجدى الطيب الذى أراد أن يحتوى الجميع، وكامل الباشا بإضفاءه لمسة رومانسية رغم مأساة النهاية، وحتى ضيوف الشرف الفنانة عارفة عبدالرسول والمخرج خيرى بشارة.
أمير رمسيس آمن بفكرته.. ربما يكون هذا سر تميزه فى طرحه وهو يرفع الستار عن حظر اجتماعى آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved