فتاوى فاسدة

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الأحد 23 يناير 2011 - 9:06 ص بتوقيت القاهرة

 بدلا من تكفير المنتحرين وتسفيههم. أليس الأجدى والأنفع أن نحاول بشكل جاد ان نجيب عن السؤال الأهم: لماذا ينتحرون؟..ألحَّ علىَّ هذا السؤال حين وجدت بعض وسائل الإعلام عندنا مهتمة باستطلاع آراء الفقهاء فى مصير هؤلاء فى الآخرة وعلى أى مراتب جهنم سيتم توزيعهم، وهناك صحفيون آخرون استطلعوا آراء بعض علماء النفس الذين لم يأخذوهم على محمل الجد، وقال أحدهم إنهم يريدون لفت الانظار فقط، وكأنهم أرادوا أن يشتهروا قبل أن يموتوا! الذين أفتوا فى الموضوع تسرعوا فيما قالوه وأخطأوا فيما خلصوا إليه، على الأقل فيما نقلته عنهم الصحف المصرية. وأكبر خطأ وقعوا فيه أنهم حملوا الأحاديث النبوية التى أدانت المنتحر واعتبرته كافرا بأبعد كثيرا مما تحتمل، واعتبروه كافرا بالملة فى حين أن المراد هو الكفر بالنعمة التى لا تخرج المرء من الملة. وان المقصود هو تحذير المؤمنين حتى لا يسارعوا إلى القنوط ويفقدوا ثقتهم فى رحمة الله وفرجه، فيتخلصون من حياتهم التى وهبهم الله إياها. بالتالى فإن الأحاديث النبوية نهت عن قتل النفس وحذرت من يقدم على ذلك من أنه سيكون خالدا فى نار جهنم فى الآخرة.

فصل فى هذا الموضوع الإمام النووى فى شرحه على صحيح مسلم. حيث ذكر أن الأحاديث التى وردت فى هذا الصدد وتحدثت عن خلود المنتحر فى النار تحمل على ثلاثة أقوال.

قول يرى أن المنتحر إذا كان واعيا بحرمة الانتحار وأقدم عليه رغم ذلك فإن الكفر بالنعمة يثبت فى حقه وينال عقوبته فى الآخرة.

القول الثانى يرى ان المراد بالخلود طول المدة والإقامة المتطاولة لا حقيقة الدوام، كما يقال خلد الله ملك السلطان، القول الثالث ان ذلك جزاؤه ولكن الله تعالى تكرم فأخبر (فى أحاديث أخرى) أنه لا يخلد فى النار من مات مسلما.

هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول انه ليس لدينا حكم شرعى عام بتكفير المنتحر، ولكن هناك نهيا عنه وإدانة للمنتحر، إلا أن كل حالة ينبغى أن تبحث فى ضوء ملابساتها، ولا ينبغى أن نصدر حكما عاما على الجميع.

يساعدنا على استيعاب هذا الموقف أن نقيس على النص القرآنى الذى يقرر أنه: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم (النساء ــ 148). ذلك ان الأصل هو النهى عن الجهر بالسوء، والمسلم اللعان مدان فى أحاديث نبوية كثيرة، إلا أن المظلوم الذى يستشعر الغبن والقهر، يستثنى من الإدانة ويغفر له فعله.

لنا أن نقيس أيضا على الآيات التى وردت فى أواخر سورة الشعراء التى تقول: «والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا. وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون».

ان الحكم على الشعراء ليس واحدا فى هذه الآيات، ولئن كانوا ممن يتبعهم الغاوون، إلا الذين آمنوا منهم وانتصروا بعدما ظلموا فإنهم مستثنون من الإدانة والعقاب.

إن غضب المظلوم تفتح له أبواب السماوات، وهو معذور فى كل ما يقدم عليه، سواء جهر بالسوء أو أشعل النار فى نفسه. ولم أفهم لماذا نشغل أنفسنا بمصيره فى الآخرة، الذى هو متروك لعدل الله ورحمته. وأستغرب جدا ان نطلق حكما بتكفير الشاب التونسى مثل محمد بوعزيزى الذى اشعل النار فى نفسه، لتصبح تلك الخطوة بمثابة عود الثقاب الذى فجر الانتفاضة الشعبية التى أطاحت بحكم الطاغية وتحدت جبروته.

لست أخفى أننى أتشكك فى براءة مثل هذه الحملات، التى تثنى الناس عن التعبير عن غضبهم بعدما فاض بهم الكيل وتحملوا مظالم لا قبل لهم بها. فقد سبق أن قرأنا إدانة وتحذيرا من الإقدام على الإضراب عن الطعام، بدعوى أنه يتعارض مع النهى عن ان يلقى الناس بأنفسهم إلى التهلكة. كما قرأنا تجريما للتظاهرات التى تخرج إلى الشوارع بدعوى أنها تؤدى إلى تعطيل مصالح المسلمين، وهو ذاته التجريم الذى يدان به معارضة الأنظمة المستبدة والتمرد عليها، بزعم أن ذلك من شأنه إثارة الفرقة والفوضى فى دار الإسلام.. إلى غير ذلك من الفتاوى التى تسعى فى نهاية المطاف إلى حث الناس على الرضا بالقهر والظلم، وتصرفهم عن تحدى الظلم وانكار منكراته وفواحشه.

ليت الذين ينشغلون بمصير المنتحرين فى الآخرة يتركون ما لله لله. ولو كانوا مخلصين وشجعان حقا فليتهم يفسرون لنا لماذا أقدم أكثر من ١٠٠ ألف مصرى على الانتحار فى عام واحد، وهو الرقم الذى فاجأنا به مركز معلومات مجلس الوزراء (الأهرام 20/1).

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved