حول الدولة والديمقراطية

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الخميس 23 يناير 2014 - 4:40 ص بتوقيت القاهرة

هى «المجموعة من البشر التى تحتكر الاستعمال المشروع للعنف فى نطاق جغرافى معين»: تعريف عالم الاجتماع الألمانى الأشهر، ماكس فيبر، للدولة الحديثة. ولم يكتب الرجل بقصد الانتقاد، فقط الوصف. وقد ساد تعريفه فى دراسات وكتابات فلسفة القانون وفلسفة السياسة للمائة عام الماضية. وعلى حسب التعريف السائد هذا، فـأدوات الدولة فى ممارسة «العنف المشروع» هى القوات المسلحة والشرطة، وهما جزء من الدولة. وفى الأغلب تستعمل الدولة القوات المسلحة فى ممارسة «العنف المشروع» مع من هم خارج نطاق الدولة (أو من لا ينتمون للدولة)، وتَستعمل الشرطة لنفس الغرض داخل نطاق الدولة.

والقوات المسلحة والشرطة ليستا الأدوات الوحيدة المتاحة للدولة، فالدولة تستطيع أن تتعامل مع أجهزة أو كيانات أخرى، ليست جزءا من الدولة، تعيرها الدولة، لفترة، مشروعية استعمال العنف نيابة عنها، ونرى أمثلة لهذا فى تعاقدات إدارة الولايات المتحدة فى حربها على العراق مع شركات خاصة توفر الخدمات القتالية مثل شركة «بلاكووتر» (التى اضطرت مؤخرا للخروج من أمريكا ونقل عملياتها إلى موقع آخر فى الكرة الأرضية)، كما نراه فى تعاقدات الحكومة البريطانية مع شركات الأمن مثل «جى فور إس» التى تؤَمِّن معسكرات احتجاز اللاجئين وتقوم بعمليات ترحيلهم (وقتلهم أحيانا كما فى حالة جيمى موبينجا)، أو فى اتفاقات الشرطة المصرية مع «البلطجية» و«فرق الكاراتيه» التى ظهرت إلى العلن أثناء استفتاء نظام مبارك على التعديلات الدستورية عام ٢٠٠٥.

طيب، من أين تحصل الدولة على حق الاحتكار هذا؟ وما الذى يجعل عنفها «مشروعا»؟ (ولنقصر حديثنا اليوم على الداخل؛ على جهاز الدولة ذى الصلاحية فى استعمال العنف مع مواطنى الدولة: الشرطة). ما الذى يجعل المواطن الصالح، حين يجد، مثلا، مجموعة من الرجال المسلحين تعترض طريق سيارته يطمئن إن رأى ــ إما من زيهم أو من الكارنيه الذى يظهروه له ــ انهم من الشرطة؟

فى الدولة الديمقراطية الحديثة يُفترض أن الشعب هو الذى يمنح الدولة حق استعمال العنف، فالشعب هو مصدر السلطات، وهو الذى ينتخب مجموعة منه يديرون أمور البلاد؛ ينتخب برلمانا يرسم حدود العنف المشروع عن طريق إجازة القوانين (التى تخضع أيضا لمعيار «الدستورية» راجعة إلى نص دستورى وضعته جمعية ممثلة للشعب)، وينتخب رئيسا يختار حكومة بيدها أن تستعمل العنف إن استدعت الظروف ذلك.

ولكى يظل هذا العنف مشروعا تحتاج الدولة ــ الديمقراطية ــ أن يظل الشعب (وبرلمانه إن وجد) راضيا عنه مسَلِّما بضرورته، وأن تقر به المؤسسة القانونية: النيابة والقضاء. وأن يكون هذا الرضا والإقرار مبنياين على معرفة حقيقية بما يجرى فى الشارع وفى السلطة ــ وهنا يأتى دور الإعلام. ولهذا فإن من السمات الأساسية للدولة الديمقراطية أن تكون المؤسسة القانونية (النيابة والقضاء) والمؤسسة التشريعية (البرلمان) والإعلام فيها مستقلة تماما عن الجهاز التنفيذى (الحكومة) وأدواته (القوات المسلحة والشرطة).

وتفترض الديمقراطية أن «العنف المشروع» تلجأ إليه الدولة مضطرة، وكحل أخير لم تجد غيره، وحين تضطر إلى استعماله يكون ذلك بأقل خسارة ممكنة، فالدولة ــ فى النهاية ــ وظيفتها السهر على مصلحة المواطن، سواء كان مواطنا مدنيا أم عسكريا أم من الشرطة، وتأمين حقوقه ومن أولها الحق فى الحياة وفى السلامة.

ويفترض أيضا أن تكون الدولة على درجة من الكفاءة تمكن أدواتها من استعمال مستويات متدرجة من العنف بدءا دائما بالأقل ــ فلا يندرج تحت مسمى «العنف المشروع» مثلا أن ترسل بقوة من عشرات من حاملى المدافع الملثمين لتقبض على صاحب رأى نائم فى بيته، أو أن تفقأ عيون مواطنين لاحتجاجهم السلمى عليها، أو أن تغسل أمعاء سجين تشك فى تهريبه شريحة محمول فتقتله، أو أن تلقى بقنبلة غاز فى سيارة ترحيلات مزدحمة مغلقة فتقتل من فيها خنقا، أو أن تفض اعتصاما فى طريق عام بقتل مئات من المعتصمين. فكل هذه الممارسات تعتبر ــ فى الديمقراطيات ــ دليلا دامغا على عدم الكفاءة، إما فى اتخاذ القرار أو فى تنفيذه.

ويفترض أن تكون الدولة على درجة من النزاهة تطمئن المواطنين أنها لا تأخذ الحابل بالنابل، فتوسع رقعة عنفها الذى ربما كان مشروعا فعلا ــ فى مواجهة تفجيرات مثلا، أو هجوم مسلح، أو جماعات إجرامية تخطف الناس وتطلب فدية ــ ليشمل اعتداء على مواطنين لم يستعملوا العنف أو يخططوا له.

وبما ان من أسس الديمقراطية استقلال أجنحة الدولة عن بعضها، فمن مقوضات الديمقراطية أن يكون هناك تداخل بين الشرطة ومؤسسة القانون، مثلا، بحيث يصرح وكيل نيابة (كان فى الماضى ضابط شرطة، ثم قاضيا) أن العمل فى الشرطة يعطى وكلاء النيابة الجدد مميزات، فيكونون أكثر ثقة فى النفس، ويعرفون «كيف يتعاملوا مع المتهمين». ومن مقوضات الديمقراطية أيضا أن ترضى النيابة والقضاء بأن تدير تحقيقاتها ومحاكماتها داخل الأقسام والسجون وفى مقار الشرطة المختلفة. ومن مقوضاتها أن يلتصق الإعلام بالدولة فيكون بوقا مروجا لها بدلا من رقيب عليها لمصلحة صاحب البلاد ومُعَيِّن الدولة، وهو المواطن.

فإذا سحب المواطن رضاه عن استعمال الدولة للعنف، صار هذا العنف عنفا غير مشروع، وإذا سحبت المؤسسة القانونية غطاءها عن استعمال الدولة للعنف، صار هذا العنف عنفا غير مشروع، وصار متساويا أخلاقيا مع أى عنف تستعمله أى قطاعات خارجة عما يرتضيه المجتمع. ولهذا تحتاج الدولة ــ إذا كانت تنوى استعمال العنف الذى تحتكره بطريقة لا تتطابق مع الأعراف الديموقراطية الحديثة ــ تحتاج إعلام صديق، ومؤسسة قانونية متعاونة، ومتحدثين باسم الشعب يعبرون باستمرار وبصخب وحرارة عن الحب والولاء والثقة والعرفان والمبايعة ويستزيدونها مما تفعل.

وحين تعمل الدولة على خلق وتنمية هذه الكيانات التى تحتاجها، تكون قد مارست العنف القاتل على أسس ومكونات مشروعيتها وعلى الحياة الديمقراطية المتحضرة ذاتها

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved