ثورة يناير بعد عشر سنوات

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 23 يناير 2021 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

يحلُّ يوم غد العيد العاشر لثورة يناير. كلام كثير قيل فى هذه الثورة ومواقف شديدة التضارب اتخذت منها. بعد عشر سنوات ومياه غزيرة مرّت تحت الجسور، أصبح الخطاب السائد إما إدانة كاملة لها ولمن أشعلوها باعتبار أنها لم يكن لها أصل أن تقوم، وإما حديثا ملتبسا يمتدحها ثم يدين اختطافها من قبل قوى داخلية وخارجية واستخدامها ضد مصر والمصريين. هذا المقال يعتبر أن ثورة يناير كانت ثورة خيرة، وهو يفنِّدُ ما قيل فى حقها. فى سبيل ذلك يستعرض المقال الأسباب الموضوعية التى أدت إلى قيام الثورة، ثم يتناول مسألة اختطافها داخليا وخارجيا، وهو إذ يفعل ذلك يحاول تقديم تفسير للفشل الذى آلت إليه وأوجه الضعف والقصور التى اعترتها. ولأنه يستخدم مصطلح «الثورة» رغم فشلها، ولأنه يأخذ فى حسبانه النقاش بشأن ما إذا كانت شواهد يناير وفبراير 2011 ثورة أو انتفاضة أو مجرد أحداث، فإن المقال ينظر باقتضاب فى مفهوم الثورة قبل أن ينتقل إلى موضوعه الأصلى.
***
«الثورة» فى العلم الاجتماعى المعاصر هى تغيير فى نظام الحكم يصحبه تغيير عميق آخر فى النظام الاقتصادى، وفى البنية الاجتماعية، وفى القيم الثقافية. بهذا المعنى، لا مجال للحديث عن ثورة يناير. غير أننا فى سياق عربى، وفى اللغة العربية لفظ «الثورة» مشتق من الفعل الثلاثى «ثار»، وفى معجم الغنى «ثار الشعب بالحاكم المستبد: انتقض ووثب عليه ليحدث ثورة»، وفيه أيضا «ثار الشعب على الاستعباد والقهر». وفى معجم اللغة العربية المعاصر «ثارت ثائرته» أى «بلغ به الغضب مبلغا بعيدا». فى التاريخ العربى أيضا ما يبين سلامة استخدام المصطلح فيما هو دون التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العميقة كما ورد مثلا فى عبارة «ثورة الزنج» إبان الدولة العباسية فى القرن التاسع الميلادى. على ذلك، ففى هذا المفهوم للثورة «ثورة يناير» عبارة سليمة تماما، ولكن فيه أيضا أسباب قصورها.
ندخل فى موضوعنا لنُذَكِّرَ بالأسباب التى دعت لقيام الثورة والرد بذلك على ما يقال عن أنها كانت مصطنعة وما كان لها أن تقوم أصلا. نُذَكِّرُ ببعض الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتداخلة وبأمثلة من الاحتجاج عليها التى شهدها العقد السابق على الثورة. عرفت مصر فى عهد حكومة الدكتور أحمد نظيف معدلات نمو عالية وهى وإن كانت قد تراجعت إلى خمسة فى المائة فى 2009 و2010 بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية فلقد وصلت إلى معدل محترم هو سبعة فى المائة فى كل من 2007 و2008. كذلك ارتفعت قيمة الاستثمار الأجنبى المباشر إلى 10 مليارات و11,5 مليار و9,5 مليار دولار فى سنوات 2005 و2006 و2007 مثلت 5,7 و8,9 و8,4 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى فى تلك السنوات على التوالى. هذه مؤشرات إيجابية لا ريب فيها، ولكن على الرغم منها ارتفع معدل الفقر فى البلاد من 16.7 فى المائة فى 2001 ــ 2002 إلى 25,2 فى المائة فى 2010ــ2011. معدل الفقر هو المؤشر الأهم فى حياة الناس، خاصة وأن التلازم بين ارتفاعه وارتفاع معدل النمو الاقتصادى يكشف عن تركّز ثمار هذا النمو فى شريحة محدودة من مرتفعى الدخل وتراجع دخول الأغلبية من المواطنين، وهو ما يعنى اتساع اللامساواة والتفاوت فى الدخول والثروة. أكثر من الفقر، اللامساواة محرك للاحتجاجات والثورات.
***
فى شهر إبريل سنة 2008 أضرب عمال شركة الغزل والنسيج فى المحلة احتجاجا على تدهور أحوالهم المعيشية وتبع ذلك احتجاجات واسعة النطاق. فى سنة 2010 اعتصم عمال وموظفون من مؤسسات عديدة بمصانعهم وبالأرصفة أمام مجلسى الشعب والوزراء مطالبين بمستحقاتهم وبتحسينها.
فى نفس هذا العقد، فى سبتمبر 2005، اندلع حريق فى قصر ثقافة بنى سويف راح ضحيته خمسون من فنانى المسرح. وفى العقد السابق عليه، فى فبراير 1998، غرقت العبارة السلام 98 على بعد 57 ميلا لا غير من الغردقة وعلى متنها أكثر من 1300 مسافر. بينت التحقيقات أن السفينة كانت محملة بأكثر من الحمولة المقررة لها وأن كثيرا من عوامل الأمان كانت تنقصها. شاع أن أصحاب نفوذ ساعدوا على هرب المتهم الأول، صاحب السفينة، إلى الخارج، وهو حصل مع غيره على حكم بالبراءة بعد ذلك. فى نفس العقدين المذكورين، فيما بين سنتى 1993 و2009 تكررت حوادث القطارات ووصلت المأساة إلى ذروتها فى فبراير 2002 فى حادث العياط الذى راح ضحيته أكثر من ألف مواطن.
فى الجانب السياسى، سيطرت لجنة السياسات فى الحزب الوطنى وامتداداتها فى مجلس الشعب على صنع السياسات الاقتصادية وغيرها بدون حسيب أو رقيب. كان فى الحزب وفى اللجنة أعضاء أفاضل لم تكن المشكلة فيهم وإنما فيما يسوّغ لحزبهم ولجنتهم أن يتصرفوا حسب أهواء قيادتهم وحدها، وبصورة تقنية غير سياسية لا تلقى بالا لا لمشاركة المواطنين فى صنع السياسات ولا لتوزيع عوائدها عليهم. وعلى رأس اللجنة، وكذلك الحزب من الناحية الفعلية، جلس نجل رئيس الجمهورية، جمال مبارك، بدون أى مبرر لا من خبرة سياسية ولا من تجربة علمية. لم يكلف جمال مبارك نفسه حتى عناء إضفاء شرعية شكلية على طموحه بخوض انتخابات مجلس الشعب التى كان كل شىء كفيلا بإنجاحه فيها. هو استقل مصعدا كالصاروخ فى سرعته إلى قمة التنظيم السياسى. بصرف النظر عما إن كان مشروع للتوريث قد وجد فعلا أو لا، كما صار الادعاء بعد ذلك، ألم يكن هذا سببا كافيا لاستفزاز المصريين وحمل نخبة منهم على الانتظام فى تجمعات لمناهضة التوريث، وأخرى مثل «كفاية» و«الجمعية الوطنية للتغيير» و«جماعة 9 مارس»؟ من يبحث فى أسباب الثورة لن ينضب له معين. حتى لا نستطرد فيما يتعدى المساحة المخصصة للمقال، نضيف تفاقم «الطائفية» وهو مصطلح غير مألوف حتى ذلك الوقت فى السياسة المصرية كان قاع مأساتها تفجير كنيسة القديسين فى الإسكندرية فى يناير 2011، نفس الإسكندرية التى قتل فيها بدم بارد الشاب خالد سعيد فى يونيو 2010. الثورة لم تكن وليدة لحظة 25 يناير.
***
من يقولون إنه لم يكن للثورة أسباب أصلا يقفون على أرض هشة. الحجة التلفيقية القائلة بأنه كان للثورة أسبابها ونواياها الحسنة غير أنها انحرفت عنها بفعل داخلى وخارجى يمكن أيضا تفنيدها.
الفعل الداخلى يقصد به مناورة جماعة الإخوان المسلمين حتى جنت كل ثمار الثورة، وفازت برئاسة الجمهورية وبالأغلبية المرجحة مع حلفائها فى البرلمان وفى الجمعية التأسيسية، وصاغت الدستور على هواها. حقيقة الأمر أن هذه المناورة لا تؤخذ على الثورة ومحركيها بل على إدارة المرحلة الانتقالية. فيما بين 25 يناير و11 فبراير لم يجر الممسكون بالسلطة محادثات مع المحركين للثورة ولا مع حركات الاحتجاج التى كانت موجودة قبلها بل هم استدعوا للتباحث جماعة الإخوان المسلمين وأحزابا لا صدى لها، بحيث أصبحت الجماعة فعليا هى المقابل الوحيد الذى تعترف به السلطة المتبقية من حكم الرئيس حسنى مبارك. هذا فى حد ذاته أسبغ قوة وشرعية على الجماعة أكثر مما لها فعلا فى الساحة السياسية وشجعها على أن تلقى بقواها فى الثورة بعد أن كانت قد أمسكت عن المشاركة فى إشعالها. وبعد سقوط الرئيس مبارك بأربعة أيام فقط، نشأت لجنة لتعديل دستور سنة 1971 ترأستها شخصية تنتسب فكريا إلى الإسلام السياسى، وبها شخصيات أخرى تنتمى إلى نفس الفكر بما فى ذلك عضو صريح فى جماعة الإخوان المسلمين، بينما خلت اللجنة من أى عضو ينتمى إلى الثورة أو إلى جماعات الاحتجاج! بذلك كان طبيعيا أن تخرج اللجنة بمقترحات فى صالح رؤى الإخوان وغيرهم من جماعات الإسلام السياسى، وسريعا ما تحدد يوم 19 مارس للاستفتاء على مقترحات اللجنة وتُرِكَ الإسلام السياسى ليبتزّ الأطراف السياسية الثورية والاحتجاجية وليحدد الجدول الزمنى للانتقال الذى يناسبه قبل أن ينظم منافسوه أنفسهم. هذا هو الأصل فى فوز الإخوان المسلمين بمواقعهم فى النظام السياسى الجديد الذى صاغوه. غير أن الإخوان، لأنهم أيديولوجيون وليسوا سياسيين يبحثون عن التوافق، أرادوا أن يستأثروا بالنظام السياسى كله غير منتبهين إلى أن المواقع التى شغلوها لم تكن تعنى أن السلطة دانت لهم. سلطة الثقافة والسياسة والذاكرة التاريخية والصحافة والقضاء والأمن بقيت عصية عليهم. غاب عنهم ذلك وأرادوا لأنفسهم كل شىء فانتهى بهم الأمر إلى أنهم فقدوا كل شىء ودفعوا الثمن، ومع الأسف، ما زالوا يدفعون.
أما التدخل الخارجى، فالمقصود به تدخل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. المراقب يندهش ويتساءل لماذا يتدخل الأمريكيون والأوروبيون لتغيير نظام الرئيس مبارك؟ اقتصاديا، كانت مصر تطبق بإخلاص السياسات التى تدعو إليها الولايات المتحدة والمؤسسات المالية الدولية. وبشأن القضية الفلسطينية والوضع فى الشرق الأوسط، اعتبر وزير إسرائيلى كان من قبل رئيسا للأركان أن الرئيس مبارك كنز استراتيجى لإسرائيل لأنه معنىّ بالاستقرار فى الشرق الأوسط. ومصر كانت فى خصومة مع حماس وحزب الله وإيران، وكلها تحسبها الولايات المتحدة وإسرائيل أعداء لها. ومصر طرف فى الحوار المتوسطى الذى أنشأه حزب شمال الأطلسى منذ سنة 1994، وهى كانت تجرى مع الولايات المتحدة مناورات سنوية. أما الاتحاد الأوروبى فتربطه بمصر اتفاقية شراكة واسعة النطاق منذ سنة 2001. منطق التدخل الخارجى لسرقة الثورة لا يستقيم.
***
تبقى أوجه القصور والضعف فى الثورة. أولها أنها، كما سبقت الإشارة، ثورة بمفهوم الغضب فضلا عن الاحتجاج. من أشعلوها من غير التيارات الدينية لم يلتقوا ولم يتفاوضوا ولم يتوافقوا على برنامج سياسى يلهمون به الناس ويجمعونهم عليه. فى السنوات السابقة على الثورة اكتفى النشطاء من الشباب ومن الأقل شبابا بالاحتجاج وبتنظيمه حتى فاجأهم نجاحهم باندلاع الثورة وكل ما لديهم هو أفكار متناثرة وفى كثير من الأحيان متناثرة فى وقت واجهوا فيه تنظيما قويا للإخوان المسلمين وإدارة للمرحلة الانتقالية غير مكترثة بهم على أقل تقدير. والنتيجة الطبيعية لذلك هى أنهم خاضوا الثورة والمرحلة الانتقالية دون قيادة تجمعهم وتوفق بينهم وتتخذ المبادرات وتروج لها، وتتراجع عنها عندما يأتى وقت التراجع. بعبارة أخرى خاضوا الثورة دون قيادة قادرة على السياسة.
المؤرخون سيبحثون ويكتبون يوما قصة الثورة.
أما الآن فالتحية واجبةٌ أولا للثورة وشهدائها.
وأمنياتنا ثانيا بالديمقراطية والتوافق والتقدم لبلدنا.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved