تمارين على الكلام

محمد موسى
محمد موسى

آخر تحديث: الأربعاء 23 فبراير 2011 - 10:08 ص بتوقيت القاهرة

 قطع شعبنا عدة سنوات ضوئية فى 18 يوما، ولم ننتبه إلى المسافات الخرافية التى طويناها، وإلى ما ينتظرنا من جهود «إعادة ترتيب العقل المصرى»، إلا حين أصبح كل شىء ممكنا فى طوفان التحليلات الفضائية، ورغبة الظهور فى الصورة الرسمية للثورة من الجميع، حتى من أعدائها الصريحين، الوقحين سابقا.

قبل أيام حضرت تسجيل أحد البرامج التليفزيونية، وشاهدت أصغر شابة محجبة فى القاعة تصرخ فى وجه الجميع «عايزين نمشى»، وهى تتهم طاقم البرنامج بأنهم «بيعملوا شو على حساب شباب التحرير، واختيار المتحدثين كان حسب أجندة». نجحت الفتاة الثائرة فى إشعال ثورة المدرج الصغير، وأطاعها الجميع عن حق أو بدون وجه حق.

الظاهرة مبهجة ومخيفة. المبهج تلك الجرأة فى التعبير الصارخ عن الرأى، ونهاية عصور من الخوف، أما المخيف فهو الاندفاع فى «كلام» يحرث الأخضر واليابس بلا هوادة ولا تمعن، على طريقة العقود الستة مع تغيير واحد: ضع كلمة الثورة بدل كلمات مثل «الاستقرار، التنمية، أول طلعة جوية، الفكر الجديد..»، إلخ، فقد أصبحت الرغبة فى «الكلام» تسبق كل شىء، تسبق حتى التفكير فيما سيقوله الإنسان.

أنظر إلى التعريف الذى تقدم به الفضائيات ضيوفها من «المتكلمين»، إنهم «حمدى، من شباب التحرير، ومنى، من ثوار الميدان، وحسن من جيل يناير»، ولا يوجد تعريف قانونى يسمح للشاب بالدخول تحت مظلة الثوار أو الحرمان منها.

لكى يفهم خط سير رياح التغيير التى هبت من تونس ومصر، شكل الرئيس أوباما فريقا من خبراء فى مسألة التحول الديمقراطى من أنظمة دكتاتورية، عبر انتفاضة شعبية، أما فى مصر فلا أحد يريد أن يحصل على المعلومة، ولا أن يقرأ فى الوقائع قبل أن «يتكلم». العقل الأحادى يحتفى بتفصيلة واحدة، ويتجاهل ما عداها لأنه عاطفى يميل إلى قمع الرأى الآخر، أكثر مما يميل إلى فهمه وتفهمه، والظاهرة مستمرة.

توم مالينوسكى، مدير منظمة هيومان رايتس ووتش فى واشنطن تأمل المشهد من بعيد، وأرسل إشارات تحذيرية بشأن «المخاطر الأربعة على الثورة المصرية»، منها أن يبقى النظام بعد تغيير رأسه، وأن تستمر مقاومة تحالف الفساد الذى «نهب أموال المصريين لصالح أعوان جمال مبارك، مستغلين أن حكومة تسيير الأعمال تنتمى فى الغالب إلى نظام مبارك»، بتعبير الرجل. أما أخطر ما يهدد ثورتنا فى رأيه فهو «الالتفاف على قادة ثورة الشباب واحتواؤهم، واستغلال الفرحة الشعبية الغامرة بالخَلاص من مبارك، فى تحويل أنظار الشعب بعيدا عن الإصلاحات اللاّزمة».

معظم ما نشاهده مونولوجات أحادية لا تعترف بالحوار، وتكرار صوفى لعبارات تتحول إلى صدى معدنى فارغ، بما يعنى أن إعادة صياغة «العقل المصرى» معركة لن تقل أهمية وسخونة عن حرب تحجيم النظام السابق، واقتلاع جذور الفساد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved