بعضى باق هنا

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الإثنين 23 فبراير 2015 - 11:35 ص بتوقيت القاهرة

أسرعت الأيام فى خطاها ...راحت تعاكس حركة الريح والماء والرمل السريعة ..أرسلت السماء بزخات ثم مطر كثير منه.. كم جميل أن تودعين هذه المدينة الغالية وهى على موعد مع الاغتسال بالمطر، فى كل مدن الكون تتلبد السماء بالغيوم السوداء إلا هنا فكانت الغيوم تتراقص فى سماء تعرف أن للمطر شأنا خاصا لهذه المدينة...

سقط المطر فاغتسلت الأرض الطيبة والشجر وأسرع الجميع فى الخطوات ليختبئ من هذا الزائر الغائب دوما إلا فيما ندر..

راحت اللحظات تتسرب كأنها ماء زلالا من بين أصابع اليد.. تكتنز الشنط بكثير من الحب والدفء المعتق فى مياه النيل الدافئة رغم برد الشتاء القادم من بعيد.. تمعنين النظر لتختزن الصور والبشر ..تخبئينها جميعا بين أضلعكو ترددين أرحل وهم معى ..كثير منهم عالق بى.. دفئهم النادر.. قلوبهم المعطرة بالحب وعيونهم التى ستحرسنى وأنا ابتعد بعض الشىء..

كم سأفتقدكم..كم أنتم باقون فينى.. كم سأحملكم فى زوايا القلب المشرقة.. كم سأحلم بجلسة هنا وضحكة هناك وطريق كان يحملنى من هنا إلى هناك اغتسل هو الآخر بمياه الأمطار القادمة على وقع الرحيل حتى ارتوى. ...

•••

بخزائن القلب يبقون هم، كلهم بأسمائهم وتفاصيلهم الصغيرة ...لكل حكاية..

لهم جميعا لأم محمد المفترشة الأرض عارضة خيرها على فرشة من الخيش المبلول بشارع سليمان جوهر ولحضن منال ومنه وعايدة وثريا وبلسمو دالياو نيهال وشيماء ودينا ونورة وملك وشهيرة وعزة وعائشة وسارة ومايسة، نعمية وسحر ورشا ولجميلو محمد وجمال ومجدى وأحمد وناصر وحسام وعلى وسمير ومجدى وفتحى وجبرونى ومينا وشكرى وجورج وياسر وهشام الذى رحل سريعا وهشام الباقى أكثر قربا ... لشباب أحفظ وجوههم منذ يناير ٢٠١١ فى الميدان رغم أن الاسماء تأتى وتغيب أحيانا.. ولآخرين تقاطعت دروبنا أحياناو أبعدنا ضجيج المدينة وصخبها.. للوجوه المتعبة فى نهاية يوم طويل تتكئ على نافذة الأتوبيس المتخم بالبشر تنظر للبعيد وتبحث عن بعض أمل فى القادم.. لطارق الذى سقط سهوا من حسابات الأسرة والعائلة والدولة فلم يجد بيتا له سوى الشارع ولا غطاء سوى مساحة صغيرة يتقاسمها مع رفاق آخرين تحت أحد كبارى المدينة.. هو الذى سرقت منه طفولته فتمسك بابتسامته..

لمنال التى أطالت الضحكة لتخفى الدمعة المختبئة وراء عينيها السوداوين وراحت تردد «خلى بالك من نفسك».. وايهاب الذى أهدانى اكثر صورة غالية عليه.. صورة للسيدة مريم العذراء وردد «هى ستحميك»..

•••

يوشك اليوم على نهايته وتوشك الأيام كلها أن تنتهى إلى مكان واحد فقط أو إلى حقيبة السفر المزدحمة بالأسماء والوجوه والبشر على تلاوينهم والأجمل منهم هم أولئك الأكثر قربا من الأرض وملحها الذين لا بوصلة سوى بوصلة القلب ولا حسابات بنكية ولا مصلحة بل كثير من المحبة كما تعلموها من تعب الايام ...

يتسلل سحر المدينة عبر ليلها الأكثر جمالا ودفئا، تعود لاختزان الصور، كم ستخزن الذاكرة؟ ..تكره تكرار الصور المعلبة وتغلق المذياع الذى يبعث ببعض الغناء الغبى لأن مثل هذا البلد ليس بحاجة ليكرر الكلمات الممجوجة فقط أن يتعلم كيف يرسل كل هذا الكم من الحب والدفء ليكفى الكون كله.. ليعلم كل الجالسين على أرائكهم المريحة كم هى الحياة جميلة هنا بأكثر المظاهر بساطة حتى لو كانت ببطاطا مشوية فوق ورقة تأكل على حافة الطريق عند نهاية الكوبرى أو ذرة مشوية على السور المستلقى عند النهر.. هولاء بشر حقيقيون لا يعرفون سوى فن الحياة على الطريقة المصرية جدا.. هل يعرف أحد كيف يتعلم مثلهم كل هذا الكم من الشوق والوفاء؟.. آه كم سأفتقدكم.. أرحل وبعضى لا يزال هنا ربما هو أكثر من بعضى.. !!!!

•••

صعب هو الوداع حيث تحتبس الدموع الدافئة فى الفؤاد

وها أنت على موعد آخر مع الرحيل ..تكتنز الشنط بكثير من الذكريات والدفء النادر.. تغادرين وكثير من دفئهم لا زال معك.. تخبئينه بين أضلعك المتعبة اصلا.. تختزنين الصور لبشر كثير منهم ربما ولكنهم ليسوا ارقاما بل هم

ارسلت السماء بخيرها ... بعثرت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved